الإدارة كبصمة خالدة

تتشابه مهنة الإدارة في جوهرها مع سائر المهن الإنسانية الكبرى كالطب والهندسة والقانون، فهي كغيرها وُجدت لتُلبي الاحتياجات البشرية الملحة، غير أنها تنفرد بخصوصية تجعلها علماً وفناً في آن واحد، لتقود الأفراد والمجتمعات نحو تحقيق الأهداف المشتركة.

وانطلاقاً من هذه الطبيعة المتفردة، لا يمكن اختزال الإدارة في كونها مجرد إصدار للأوامر أو مراقبة لسير الأعمال داخل المؤسسات والشركات، إذ إنها قبل كل شيء، فن التأثير في الآخرين وإلهامهم، وتحريك ما في داخلهم من قدرات كامنة، ومن يظن أنها مهنة بسيطة يمكن لأي شخص اقتحامها كيفما شاء، أو حائطاً قصيرا يتسلقه الطامحون إلى لقب ”مدير“ دون امتلاك أدواتها المعرفية، ومهاراتها التطبيقية وسلوكها الأخلاقي المنسجم مع مبادئها وضوابطها فإنه يقع في وهم خطير.

فهي ليست مسرحاً لتجارب الهواة، ولا ساحة لتجريب الحظوظ، بل منظومة فكرية، وعملية معقدة تتطلب فهماً متكاملاً لطبيعة الإنسان وديناميكيات الجماعات وقدرة على اتخاذ القرارات الرشيدة في أحلك الظروف، ومن يتجاهل هذه الحقيقة انما يعبث بمصائر المؤسسات وبهدر الطاقات البشرية، بل ويدفع بالمجتمع كله نحو التخلف والفوضى تحت مسمى ”المدير“ أو ”القائد“

ومن هذا المنطلق تُصبح الإدارة ”كبصمة خالدة“، إذ يترك القائد الفعّال أثره العميق في نفوس من حوله، وفي المؤسسات التي يقودها، وفي الثقافة التنظيمية التي يُشيدها، وهذا الأثر لا يتوقف عند حدود وجوده في موقع القيادة، بل يمتد ليستمر طويلا حتى بعد مغادرته المكان أو رحيله عن الحياة، لأن ما زرعه من قيم راسخة، وما أحدثه من تغييرات جوهرية يبقى حيّاً شاهداً على بصمته وخلود أثره.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما المقصود ب ”البصمة الخالدة“ وما الفرق بين التأثير والأثر؟ وكيف نستطيع ضمان استمرارية مؤسساتنا بعد رحيلنا؟

لا جدال في أنّ الإدارة تُعدّ ذروة التطور الإنساني: فقد ارتقت من كونها ممارسة تنظيمية إلى أن أصبحت علماً له أسسه ومناهجه، وفناً يتطلب بصيرة قيادية، ومهارات متقدمة، فكما أن الطبيب يترك أثره في شفاء المريض والمهندس يترك أثره في تشييد المباني والقانوني يترك أثره في تنظم العلاقات، فإن المدير القائد يترك بصمته في الأفراد والمؤسسات والمجتمعات.

ولذا نقرأ عن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في كتابه ”رؤيتي“ في الفصل الرابع مستغرباً ”كيف لم يُدرك العرب بعدُ أن الإدارة هي سبب الوضع الراهن؟ وسبقه الدكتور محمد الرميحي بمجلة العربي بمقاله بعنوان“ الإدارة فن لا يعترف به العرب المعاصرون " أوضح فيه القصور في فهم أهمية الإدارة الذي ينبغي مواجهته لا مداراته.

ما المقصود ب ”البصمة الخالدة“ في الإدارة؟

البصمةُ الخالدة ”ليست مجرد ذكرى طيبه أو نجاحاً مالياً مؤقتاً قد يتحقق بسبب ظرف معين أو سياسات مؤسسية معينة بل هي“ الأثر المستدام الذي يتركه القائد في المنظمة والأفراد، والذي يستمر في التأثير حتى بعد مغادرته لمنصبه، إنها تُشبه إرثاً تنظيمياً يتجاوز الإنجازات المادية، أو مجرد الذكرى الطيبة ليشمل القيم، والثقافة والأنظمة التي تظل حيّة وفعالة.

وقد أظهرت دراسة أجرتها جامعة هارفارد عام «2018» م أن 70%من المنظمات الناجحة حافظت على نجاحها بعد تغيير القيادة بسبب البصمة الخالدة التي تركها القادة السابقون، من خلال بناء أنظمة راسخة وثقافة تنظيمية مستدامة

ومن الأمثلة التاريخية على البصمة الخالدة، ستيف جوبز في شركة ”آبل“، حيث استمرت رؤيته وثقافة الابتكار التي غرسها في الشركة لسنوات بعد رحيله، مما جعل آبل تحافظ على موقعها الريادي في مجال التكنولوجيا، على عكس شركة ”إنرون“ التي كانت أنموذجاً للنجاح المالي والإداري ”الابتكاري“ في عصرها، وحاز قادتها على إعجاب العالم، لكنها انهارت بين ليلة وضحاها لأن ”نجاحها“ كان قائماً على ثقافة الشخص، وثقافة الغش والاحتيال والأنظمة المضللة، ولم يتبقى لها أي إرث إيجابي، مما يؤكد على أن الخلود يمكن أن يكون سلبياً أيضاً.

التمييز بين التأثر والأثر

من المنظور الأكاديمي يمكن إبراز الفروقات بين المفهومين على النحو التالي: -

أولاً: من حيث الطبيعة الزمنية، التأثير هو: ظاهرة آنية ترتبط بفعل القائد المباشر وحضوره الشخصي تماماً كأمواج البحر التي تعلو وتهدأ بتحرك الرياح، بينما الأثر: هو عملية تراكمية تمتلك خاصية الاستمرارية وتُشكل تياراً جارفاً يصعب وقفه، ويستمد قوته من تحوله إلى جزء من الذاكرة التنظيمية الجماعية.

ثانياً: من حيث مصدر القوة، التأثير: يترك بصمة سطحية قابلة للمحو كالكتابة على الرمال التي تزول مع أول موجه، بينما الأثر: ينقش بصمته في الصخر فيتحول إلى مرجعية دائمة ومنهل يستقي منه الأتباع والخلفاء

ثالثاً: من حيث آلية العمل، التأثير: يعمل بمنطق السببية المباشرة «فعل ورد الفعل» فيقتصر على تحقيق نتائج محدودة في إطار زمني ضيق بينما الأثر: يعمل بمنطق التحول الجذري، فيُعيد تشكيل البنى الذهنية والأنساق الثقافية، ويولد واقعاً جديدا مغايرا.

وهذا التمايز لا يُقلل من قيمة التأثير، بل يضع كل مفهوم في إطاره الصحيح، فالتأثير هو اللبنة الأولى بينما الأثر هو الصرح الشامخ الذي يضم هذه اللبنات في كيان مترابط متين

قصة توضيحية من الواقع

في إحدى المدارس في مدينة سعودية صغيرة، كان هناك معلم عُرف بأسلوبه الصارم والدقيق في التدريس وكان تأثيره واضحاً على طلابه في أثناء فترة دراستهم، إذ كان يُلزمهم بالانضباط ويُشدد على حل الواجبات بدقة، فالتزم أغلبهم بنظامه طيلة العام الدراسي، هذا هو التأثير: أثر مؤقت يحدث في سلوك الأشخاص نتيجة حضور مباشر أو قوة سلطة في فترة معينة.

لكن بعد مرور سنوات طويلة، التقى أحد طلابه السابقين بالأستاذ المذكور في مناسبة اجتماعية وقال له: أستاذي قد لا تتذكرني، لكنني أصبحت مهندساً ناجحّاً بفضل نصيحتك لي في الصف الثالث الثانوي عندما قلت لي ”لا تجعل خوفك من الفشل يمنعك من المحاولة“ تلك العبارة ظلت ترافقني في كل مرحلة من حياتي، ودفعتني للاستمرار رغم الصعوبات وهنا يظهر الأثر: تأثير عميق وباقٍ في النفس يتجاوز اللحظة الزمنية ولا ينتهي بانتهاء العلاقة المباشرة، بل يترك بصمة دائمة في حياة الإنسان وتفكيره وقراراته.

كيف تبني مؤسسة تعيش من دونك

لقد تناولت الأدبيات الإدارية هذه الإشكالية بعمق بدءًا من إسهامات بيتر دراكر الذي أكد على خطورة شخصنة النجاح، وضرورة مأسسة المعرفة والإدارة، مروراً بدراسات ”القيادة الموزعة“ وهي «تحول من نموذج البطل القائد الوحيد إلى نموذج فريق القيادة» التي أبرزت أثر توزيع السلطة والمسؤولية في صمود المنظمات وصولاً إلى رؤى جون كوتر حول مركزية الثقافة التنظيمية، وأطروحات جيم كولينز بشأن القيادة التي تبني مؤسسات ”تعيش من دون بطل“ وأفكار ديمينغ وكوفي حول جودة العمليات وتمكين الأفراد.

وينتهي هذا الطرح إلى أن المؤسسة التي تضمن بقاءها ونموها بعد غياب مؤسسها هي تلك التي تقوم على ثقافة عميقة، ونظام مؤسسي، وصفٍّ ثانٍ من القيادات المؤهلة، وحوكمة رشيدة تجعلها كياناً حيّاً قادراً على التكيف والتجدد المستمر، كما في حالة شركة McDonald التي تعمل بنفس الكفاءة في 36000 فرع حول العالم بفضل أنظمتها الموحدة والمفصلة.

فالنجاح الحقيقي للقائد لا يُقاس بما يحققه خلال وجوده، بل بما يستمر بعد رحيله، والمؤسسة الخالدة هي التي تتحول من الاعتماد على الشخص إلى الاعتماد على النظام، ومن القيادة الفردية إلى الحوكمة وهي ”نظام إدارة رشيد“ يضمن أن تُدار المؤسسة بشكل عادل ومسؤول وفي إطار قانوني واضح، مثل أن يتخذ مدير تنفيذي قراراً بشراء معدات أو مواد أولية من شركة يملكها قريبه أو صديقه بأسعار مرتفعة دون أي رقابة مما يتسبب في الأضرار بمصلحة الشركة، ومن الرؤية الشخصية إلى الرسالة المؤسسية بحيث تصبح كائناً حياً مستقلاً قادراً على النمو والتطور بشكل ذاتي

الخاتمة

الإدارة كإرث إنسانيّ ونُظميّ يتجاوز الفرد ويخلد الأثر

بعد هذا الاستعراض، يتجلى لنا أن الإدارة كما تحدثنا ليست مجرد مهنة ً عابرة، بل هي ”طريقة عمل منظمة لا تموت بموت أشخاصها“ إنها البصمة الخالدة التي لا تُمحى، والإرث الذي ينقش على جدار الزمن فيتحول القائد من مسيّر لأعمال يومية إلى مُنظم لمستقبل ٍ يعيش وينمو ويتنفس بمعزل عن وجوده الجسدي.

وأن البصمة الخالدة، كما أبرزتها الدراسة هي ذلك الأثر المعنوي والنظمي العميق الذي يتحول إلى جزءٍ من الحمض النووي للمؤسسة، فيجعلها قادرة على الازدهار حتى بعد غياب قائدها.

وأن الخلود المؤسسي لا يأتي بالصدفة بل هو نتيجة رؤية استراتيجية تعمل على بناء الثقافة التنظيمية القائمة على القيم الأصيلة والشفافية والابتكار، وتأسيس الأنظمة والعمليات كأنظمة الجودة الشاملة «Six Sigma» وهي منهجية تُستخدم لتحسين العمليات الحالية التي لا تعمل على النحو المطلوب أو لا تُلبي مواصفات العميل.

وأخيراً وضع ضوابط للحفاظ على المكاسب على المدى الطويل ومنع عودة المشكلة، ونظم «ISO» وهو إطار عمل عالمي يساعد المنظمات على العمل بطريقة منظمة وموحدة وفعاله، وتمكين القيادات الوسطى والصف الثاني وتفويض السلطات لهم، وهو ما تطلق عليه الأدبيات الحديثة ”القيادة الموزعة“ وتبني الحوكمة الرشيدة التي تحقق العدالة والمساءلة وتجعل المؤسسة كائناً قائماً بذاته، يحكمه القانون وليس الأهواء. تماما كشجرة ظليلة تُثمر وتُعطي ظلاً لأجيال قادمة حتى بعد أن يُصبح قائدها مجرد ذكرى عطرة في سجل التاريخ.