العقل والدماغ.. الفارق الذي يصنع إنسانيتك

ما بين كلمات المعصومين ودهشة الاكتشافات الحديثة، يظل العقل هو الكنز الأكثر عمقًا في كيان الإنسان. فهو ليس وظيفة ذهنية ولا برمجة عصبية، بل حجّة باطنة ونور إلهي يزن المواقف ويقود القرارات، وبه تتمايز الطرق بين هدى وضلال.

وهذا المقال يفتح لك نافذة على سرّ العقل في كلمات المعصومين، ويضعك أمام الفارق الدقيق بين الدماغ المادي والعقل الذي يهب للحياة معناها.

العقل في كلمات المعصومين

لقد حظي العقل باهتمامٍ خاص من قِبل المعصومين ، ويظهر ذلك جليًّا في الأحاديث الشريفة والروايات المعتبرة الصادرة عنهم «صلوات الله وسلامه عليهم». وعند التأمل في تلك النصوص نلمس بوضوح أن المعصومين تحدّثوا عن مخلوقٍ مستقلٍّ في الكيان الإنساني، له دوره العميق في تشكيل شخصية الإنسان ورسم مساره. فهو ليس جزءًا مادّيًا من الجسد، بل وجودٌ وجدانيّ يتجلى أثره في المواقف، ويُقاس حضوره في القرارات التي يتخذها الإنسان، وفي كيفية تعاطيه مع أحداث الحياة.

وقد تحدَّثت نصوصٌ شريفة عن حقيقة العقل ومكانته السامية، فجاء عن الإمام جعفر الصادق :» العَقلُ ما عُبِدَ بِهِ الرَّحمنُ، واكتُسِبَ بِهِ الجِنانُ» «»؛ وعن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب : «العَقلُ رَسولُ الحَقِّ» «»؛ وعن الإمام موسى الكاظم : «يَا هشَام إنَّ لله عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ، حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ وَحُجَّةٌ بَاطِنَةٌ، فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسَلُ وَالأَنْبِيَاءُ وَالأَئِمَّةُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وَأمَّا البَاطِنَةُ فَالْعُقُولُ» «»؛ ورُوي عن رسول الله «صلّى الله عليه وآله»: «إذا بَلَغَكُم عن رَجُلٍ حُسنُ حالٍ، فَانظُروا في حُسنِ عَقلِهِ، فإنَّما يُجازى بعَقلِهِ» «»؛ وفي حديثٍ جامعٍ جاء عن الرسول الأعظم «صلّى الله عليه وآله» أنه قال: «إنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ لمَا خَلَقَ العَقْلَ قَالَ لَهُ أَقْبِلْ فَأقْبَلْ، ثُمَّ قَالَ لَهُ أَدْبِرْ فَأدْبَرْ، فَقَالَ تَعَالَى: "وَعِزَّتي وَجَلالِي مَا خَلَقْتُ خَلْقاً هُوَ أَكْرَم عَلَيَّ مِنْك، بِكَ أُثِيب وَبِكَ أُعَاقِب، وَبِكَ آخُذ وَبِكَ أُعْطِي» «».

وهكذا تكشف كلماتُ المعصومين عن سرٍّ عظيم بأنّ العقل ليس مجرّد أداةٍ ذهنيّةٍ لربط الأفكار، بل هو حجّةٌ باطنة، ونورٌ إلهيٌّ يتجلّى في كيان الإنسان، وبه تُوزَن أعماله وتُقاس مواقفه. إنّه أوّل مخلوقٍ في عالم النور، وبه يُعرف الطريق إلى الله تعالى، وتُصان إنسانيّة الإنسان. فإذا غاب العقل غاب النور، وإذا حضر كان الحاضر المجهول الذي يصنع من الإنسان إنسانًا.

بين العقل والدماغ

كثيرًا ما يختلط على الناس الحديث عن العقل والدماغ، فيجعلونهما شيئًا واحدًا. وربما يُتصوَّر أن الدماغ هو الجزء المادّي، وأن العقل ليس إلا بُعدًا برمجيًا له، كما قد يُقال بلغة العصر. غير أنّ هذا التصوّر ليس صحيحًا على إطلاقه؛ فالدماغ، وإن كان يملك جانبًا برمجيًا يتولّى إدارة الأجهزة الوظيفيّة في الجسد، إلّا أنّ تلك المهمّة لا تُساوي حقيقة العقل. فالعقل وجودٌ مستقل في الكيان الإنساني، له إشراقه الخاص، وإن كان بينه وبين الدماغ تلازمٌ وتكاملٌ وتناغم.

وأقوى مظاهر التلازم بين العقل والدماغ هو ما يتعلّق بعملية التفكير، تلك العملية التي تُشكّل جوهر حركة الدماغ عند الإنسان.

”والتفكير هو نشاطٌ ذهني مستمر يقوم به المخ لمعالجة المعلومات، وتقديم مخرجاتٍ جديدة“ «».

فالتفكير حركة دائمة لا تعرف التوقف، وهو المقدّمة الأساسية التي تمكّن العقل من أداء دوره الجوهري في حياة الإنسان ومسيرته.

غير أنّ التفكير عند الإنسان لا ينحصر في قيادة العقل وحده، بل تتداخل فيه مؤثّرات متعددة تُحرّك الدماغ وتبقيه في نشاطٍ مستمر، حتى في لحظات السكون أو أثناء النوم.

والتفكير لا ينبثق فجأة، بل يحتاج إلى توجيهٍ يحفّز الدماغ للقيام بهذه العملية الجوهرية في حياة الإنسان. وهذا التوجيه لا ينحصر في مصدرٍ واحد، بل تتعدد جهاته وتتنوع تأثيراته، فيتلقّى الدماغ إشاراتها أحيانًا عن وعيٍ وإرادة، وأحيانًا أخرى بطريقة لا واعية.

وهنا نستعرض أبرز هذه الجهات التي تشكّل حركة الدماغ في التفكير، لنرى بوضوح أيّ موقعٍ يحتلّه العقل بينها.

أولًا - التوجيه الإلهي.

الله سبحانه وتعالى هو خالق الإنسان، وهو الأعلم بماهيّته وكيف تتحرّك طاقاته في مسيرة وجوده. ومن رحمته ولطفه بعباده أن بعث فيهم الأنبياء، وجعل من بعدهم الأوصياء، وأنزل معهم الكتاب؛ ليكون كل ذلك منبعًا لإثارة أعماق الإنسان ودفعه للتفكير فيما يرتبط بحياته ومصيره؛ وقد أكّدت آيات القرآن الكريم هذه الحقيقة، قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ «».

ولهذا أكّد أمير المؤمنين في خطبةٍ له أنّ من أعظم أدوار الأنبياء هو إحياء العقول وإثارة دفائنها الكامنة، لتتوجّه حركة الدماغ والتفكير نحو ما يُصلح الإنسان في دنياه وآخرته. قال : «فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ، وَيُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ، مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ، وَمِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ» «».

ثانيًا - التوجيه الخارجي.

يستقبل الإنسان من محيطه الخارجي سيلًا متنوعًا من الأفكار والمعلومات، تتدفق إلى ذهنه عبر قنوات الإدراك المختلفة: سمعيّة، وبصريّة، ووجدانيّة. هذه المثيرات تُشكّل بطبيعتها المادة الخام لعملية التفكير؛ فقد يكون فيها ما يدفع الإنسان إلى الخير والصلاح، وقد يندسّ بينها ما يضلّل ويُفسد إن لم يُوزَن بميزان العقل.

وتُعدّ وسائل الإعلام الحديثة من أبرز أدوات هذا التوجيه الخارجي؛ فالإعلانات مثلًا لا تكتفي بعرض المنتج، بل تُعيد صياغة رغبات الإنسان وتوجّه قراراته. ومنصّات التواصل الاجتماعي تُغرقه بخطاباتٍ وآراءٍ قد تُكسبه وعيًا أو تُقيّده داخل فقاعات مغلقة. إنها أدوات تملك قدرة هائلة على دفع الناس نحو أنماط تفكير محددة، وفق أهداف مدروسة تصوغها جهات تعمل بدهاء للتأثير على وعي إنسان هذا العصر.

ثالثًا - التوجيه الفسيولوجي التلقائي.

يحتوي الكيان الإنساني على أجهزةٍ وظيفيّةٍ تعمل بصورةٍ تلقائيّة، بعيدًا عن إرادة الإنسان المباشرة. وبعض هذه الأجهزة تدفعه خارجيًّا إلى أداء أدوار محددة، كالحاجة إلى الأكل والشرب وقضاء الحاجة. ولأن تلبية هذه المتطلبات لا تتم دون اختيارٍ أو تدبير، فإنها تحرّك الذهن نحو التفكير في كيفية الإشباع أو التوقيت أو الوسيلة.

وبذلك تُعدّ الحركة الفسيولوجية الداخلية في الإنسان إحدى الجهات المؤثّرة على عملية التفكير، فهي تُثيره من الداخل وتدفعه إلى اتخاذ قرارات مرتبطة بالحياة اليومية، حتى وإن بدا الأمر في ظاهره استجابة تلقائيّة بحتة.

رابعًا - توجيه النفس الإنسانية.

النفس هي جوهر الذات الإنسانيّة، وفي داخلها تختزن قوى دافعة تبحث دائمًا عن الإشباع. وكلّما تحرّكت إحدى هذه القوى انعكس أثرها مباشرةً على الدماغ، فينشط للتفكير السريع في كيفية تلبية تلك الرغبة.

وقد تكون هذه الرغبات مشروعة فتقود الإنسان إلى ما فيه راحته واستقامته، وقد تنطلق من الهوى فتغدو بابًا للامتحان الإلهي. فإشباع الرغبات المشروعة أمرٌ محمود، بينما الانسياق وراء الرغبات المنبثقة من الهوى يحتاج إلى يقظةٍ ووعيٍ وإرادة، حتى لا ينزلق الإنسان في حبائل الشيطان الرجيم.

خامسًا - التوجيه الذي يقوده العقل.

خلق الله تعالى العقل ليكون الموجِّه الأساس للدماغ في عملية التفكير. ورغم اشتراك مصادر أخرى في تحريك الفكر، إلا أنّ التكليف الإلهي يوجّه الإنسان إلى أن يجعل العقل هو مركز القيادة، والمرجع الأعلى الذي يُهذِّب باقي المؤثرات، ليضمن له مسارًا مستقيمًا نحو غايته.

وحين يتولّى العقل زمام القيادة، فإنّه يأخذ بيد الإنسان بثبات إلى طريق النجاة، دون أدنى شك؛ وقد لخّص أمير المؤمنين هذه الحقيقة في كلمته الجامعة: «اِسْتَرْشِدِ العَقْلَ، وَخَالِفِ الهَوَى، تَنْجَحْ» «».

وهكذا يتبيّن لنا الفارق الجوهري بين العقل والدماغ؛ فالدماغ يعمل كجهازٍ مادّي يعالج المدخلات ويُحرّك الاستجابات، أمّا العقل فهو نورٌ ووجودٌ مستقلّ، يتعالى عن المادة ليمنح تلك المعالجة قيمتها واتجاهها. وبهذا يتكامل الدماغ مع العقل، لكنه لا يساويه؛ فالدماغ أداة، والعقل هو القائد، ومن جمع بينهما على هذا النحو بلغ وعيه، وفتح لنفسه باب الكمال الإنساني.

استاذ ومفكر