نافخوا الصافرات ودورهم في حماية المؤسسات

بين صمت الجميع وصخب الأحداث، يقف نافخوا الصافرات في المؤسسات والمجتمع المدني، كالحكم الذي يُصفّر عند وقوع المخالفة، أو كجهاز الإنذار المبكر الذي يحذر قبل الكارثة، فكما أن الحكم في المباراة يوقف اللعب لتصحيح الخطأ، فإن نافخي الصافرات في المؤسسات يوقفون الانحراف قبل أن يتحول إلى مشكلة والمشكلة إلى أزمه والأزمة إلى كارثه.

بينما يؤدي الصمت والاكتفاء بالمراقبة أو الانشغال بالمصالح الذاتية عن الشأن العام أو حتى مجرد التمني بالعمل إلى تفاقم المشكلات وزيادة المخاطر المالية والأخلاقية..، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا،

ما هو مفهوم نافخي الصافرات Whistle Blowers ومتى نشأ؟، ولماذا يختار بعض الموظفين المبادرة بالكشف عن المخالفات بينما يلتزم الآخرون بالصمت؟ وما هو تأثير كشف المخالفات على سمعة المؤسسة والمجتمع المدني بشكل عام؟

مفهوم نافخي الصافرات «المبلغين عن المخالفات» ونشأته

يشير مصطلح نافخوا الصافرات إلى الأفراد الذين يكشفون عن الممارسات الغير قانونية أو الغير أخلاقية داخل المؤسسات التي يعملون بها، وقد بدأت استخداماته في الولايات المتحدة منذ القرن الثامن عشر، لكنه اكتسب أهمية واسعة في القرن العشرين مع ظهور تشريعات حماية الموظفين والمبلغين عن المخالفات، خصوصاً في مجالات الفساد المالي والإداري، ومخاطر الصحة العامة والسلامة البيئية

وهكذا أصبح هؤلاء الأفراد قوة خفية توازن بين الانضباط المؤسسي والمسؤولية الاجتماعية لما يلعبونه من دور محوري في تعزيز الشفافية والمساءلة، والحد من الانحرافات وحماية سمعة المؤسسات، على المدى الطويل

الأهمية والآثار الإيجابية

ورغم الأهمية الكبرى التي يمثلها نافخوا الصافرات إلا أن هذا الاتجاه لا يخلو من السلبيات المحتملة، فقد يؤدي الكشف عن المخالفات أحياناً إلى إثارة الاحتكاكات الداخلية أو فقدان الثقة بين الموظفين خاصة إذا لم تتعامل الإدارة مع البلاغات بحكمة وعدالة، كما أن المبلغين أنفسهم قد يُصبحون عرضة للانتقام المباشر أو التشويه الشخصي، مما يثني بعض الأفراد عن المبادرة، إضافة إلى ذلك، فإن الإفراط في الاعتماد على هذا النهج دون وجود سياسات ومعايير واضحة، وحماية قانونية قد يحول البلاغات إلى أداة للتنافس الشخصي أو الاستهداف السياسي بين الفرقاء، ولذلك ينبغي أن تتوفر فيهم مجموعة من المواصفات الأساسية

مواصفات المبلغ المسؤول

أولها: الأمانة والنزاهة، فالمبلغ الحقيقي يلتزم بالحقائق ولا يُبالغ أو يُحرف المعلومات، وثانيها: الشجاعة والمسؤولية الأخلاقية، لأن كشف المخالفات غالباً ما ينطوي على مخاطر شخصية ومهنية، وثالثها: الحيادية والموضوعية، بحيث يكون التركيز على حماية المؤسسة والمجتمع، وليس على المصالح الشخصية أو الخلافات الداخلية، كما ويجب ان يتمتعوا بقدرة عالية على التواصل الفعال والتوثيق الدقيق لضمان أن البلاغات واضحة ومبنية على أدلة ملموسة، وأخيرا ينبغي أن يتحلوا بالصبر الاستراتيجي، إذ أن تأثير بلاغاتهم قد يحتاج إلى وقت، وقد يواجهون مقاومة أو ضغوطا قبل أن تُتخذ الإجراءات المناسبة.

نافخوا الصافرات في المجتمع

وهنا لا يقتصر دور نافخي الصافرات على المؤسسات الرسمية فحسب، بل يمكن إسقاطه على الأفراد الفاعلين في المجتمع الذين يقومون بمهام مشابهة في الحياة العامة، فالمعلم الذي يكشف عن أسباب الغش في المدارس أو الإعلامي الذي يفضح قضايا الفساد والاحتكار، أو الناشط المدني الذي يحذر من المخاطر البيئية، جميعهم يُعدّون امتداداً حقيقياً لفلسفة ”نافخي الصافرات“ في المجتمع، وقد أثبتت دراسة صادرة عن جامعة هارفارد 2021م أن المجتمعات التي تحتضن هؤلاء الأفراد شهدت انخفاضاً بمعدل 27% في قضايا الفساد المحلي مقابل زيادة في ثقة المواطنين بمؤسساتهم بنسبة تجاوزت 35%.

كما أن التجارب الواقعية تُبرز هذا الدور بوضوح، ففي جنوب إفريقيا مثلاً، لعب الناشطون المدنيون دوراً محوريا ً في فضح تجاوزات شركات الكهرباء العملاقة، الأمر الذي ساهم في إصلاح السياسات العامة، وعلى الضفة الأخرى من العالم، برزت قضية السيدتين العاملتين في شركة ”أنرون“ الامريكية حين قدّمتا معلومات دقيقة عن الأخطاء والممارسات غير المشروعة، وغير النزيهة للإدارة العليا مما أحدث تأثيراً كبيرا في الرأي العام ومسار العدالة، وقد لخّص الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو هذا المعنى حين قال ”الحرية لا تُمارس بالصمت، بل بالكشف عمّا يُراد إخفاؤه“ بينما ذهب الكاتب الأميركي رالف نادر - المعروف بمواقفه في حماية المستهلك إلى أن ”المجتمع لا يتقدم إلا حينما يتجرأ بعض أفراده على الوقوف في وجه التيار وكشف الخلل“

دوافع المبادرة مقابل أسباب الصمت

يُعدُّ قرار الموظف بالإبلاغ عن المخالفات داخل المؤسسات أو الصمت عنها مسألة معقدة تتداخل فيها عوامل نفسية وتنظيمية وثقافية، وفيما يلي تحليل مستند إلى دراسات وأمثلة توضح ذلك

1 - الخوف من الانتقام والتأثير على الحياة المهنية

تشير الدراسات إلى أن العديد من الموظفين يترددون في الإبلاغ عن المخالفات خوفاً من الانتقام الوظيفي أو فقدان فرص الترقية، وقد أظهرت دراسة عالمية أن أكثر من نصف المبلغين شعروا بالضغط لعدم استخدام الخطوط الساخنة «قنوات اتصال آمنه ومباشرة داخل المؤسسة» للإبلاغ عن القضايا بسبب الخوف من تجاهل القضايا أو التأثير على حياتهم المهنية.

2 - غياب الثقة في قنوات الإبلاغ

إذا كانت قنوات الإبلاغ غير فعّالة أو تفتقر إلى السرية، فإن الموظفين قد يشعرون بعدم الجدوى من الإبلاغ وقد أظهرت دراسة أن الموظفين الذين يثقون في قنوات الإبلاغ يكونون أكثر احتمالاً للإبلاغ عن المخالفات بينما يؤدي غياب الثقة إلى الصمت.

3 - الاعتقاد بأن المخالفات لا تستدعي الإبلاغ

بعض الموظفين قد يعتقدون أن المخالفات غير خطيرة أو أنها جزء من ثقافة العمل، مما يدفعهم إلى السكوت وقد أظهرت دراسة أن الموظفين الذين يرون أن المخالفات ليست خطيرة أو أنها شائعة في المؤسسة قد يترددون في الإبلاغ عنها.

4 - الافتقار إلى الدعم المؤسسي

غياب سياسات واضحة لحماية المبلغين عن المخالفات قد يؤدي إلى تردد الموظفين في الإبلاغ، وقد أظهرت دراسة أن الموظفين الذين يشعرون بدعم من المؤسسة يكونون أكثر احتمالاً للإبلاغ عن المخالفات بينما يؤدي غياب الدعم إلى الصمت.

ولذلك من المهم أن تعمل المؤسسات على توفير بيئة تشجع على الإبلاغ عن المخالفات من خلال تعزيز الثقة في قنوات الإبلاغ وتوفير الدعم والحماية للمبلغين، وتعزيز ثقافة الشفافية والمساءلة.

تأثير الإفصاح على السمعة المؤسسية والاجتماعية

كشف المخالفات يمثل ركيزة أساسية لضمان النزاهة والشفافية داخل المؤسسات، ويؤثر بشكل مباشر على المجتمع المدني من خلال تعزيز الثقة والمساءلة، فعلى مستوي المؤسسات

يساهم الإبلاغ عن الممارسات الغير قانونية أو الغير اخلاقية في اكتشاف الانحرافات المالية والإدارية مبكراً مما يُقلل الخسائر ويحد من المخاطر القانونية والأخلاقية، وقد أظهرت دراسة Transparency International أن المؤسسات التي لديها سياسات حماية فعالة للمبلغين شهدت زيادة بنسبة 30% في رضا العملاء والداعمين، بينما أظهرت دراسة على 120 شركة في أوروبا وأمريكا الشمالية انخفاضاً بنسبة 40% في الخسائر الناتجة عن الفساد والاحتيال عند اعتماد برامج حماية المبلغين.

أما على مستوى المجتمع المدني:

فإن المبلغين عن المخالفات يعززون مراقبة الأداء المؤسسي ويخلقون ضغطاً إيجابياً نحو الإصلاح، كما حدث في كندا حيث ساعدت البلاغات عن سوء إدارة المشاريع العامة على إصلاح أنظمة الرقابة وزيادة رضا المواطنين وثقتهم بالمؤسسات بنسبة 25%.

الخاتمة والرسالة

يتضح أن نافخي الصافرات يمثلون ركناً أساسياً لحماية المؤسسات وتعزيز قوة المجتمع المدني، فهم ليسوا مجرد موظفين، بل قوة إيجابية توازن بين الانضباط المؤسسي والمسؤولية الاجتماعية، وأن كشف المخالفات يساهم بشكل مباشر في الحد من المخاطر المالية والأخلاقية ويُعزز سمعة المؤسسة وثقة المجتمع بها، وقد أظهرت الدراسات التي تطبق سياسات حماية فعّالة للمبلغين عن المخالفات شهدت ارتفاع رضا العملاء والداعمين بنسبة 30% بينما انخفضت الخسائر الناتجة عن الفساد والاحتيال بنسبة 40% في أكثر من 120 شركة في أوروبا وأمريكا الشمالية

وعلى صعيد المجتمع المدني يعزز كشف المخالفات الشفافية والمساءلة، كما أظهرت تجربة كندا في الرقابة على المشاريع العامة

والرسالة التي يوجهها المقال للقارئ العزيز هي: أن تشجيع وحماية نافخ الصافرة «الإنسان المبادر والمتطوّع بدوافع وطنية نزيهة وبنية صادقة، في سبيل تصحيح المسار أو الكشف عن خطأ خدمة للصالح العام» يُعدّ ضرورة مجتمعية وواجب أخلاقي واستراتيجي لأنه يضمن استدامة النزاهة المؤسسية ويقوي المجتمع المدني ويحقق التوازن بين المسؤولية الفردية والمصلحة العامة.