العطاء… لغة لا تخطئ الطريق إلى القلوب
في لحظة غير متوقعة، قد تمنح كلمة عابرة أو تصرف بسيط دفئًا لقلب شخصٍ آخر يظن أنه وحيد في هذا العالم. ذلك هو العطاء — لغة القلوب التي لا تضل الطريق أبدًا. فليس أجمل في حياة الإنسان من أن يجد أثر عطائه يتردد في وجدان من حوله، إذ يمنحنا معنى للحياة، ويُعلي من إنسانيتنا، ويرسّخ القيم النبيلة في المجتمع.
العطاء يحمل في جوهره أبعادًا تتجاوز الجانب المادي وحده. فهناك من يمنح من ماله، وآخر يمنح من وقته أو مشاعره، وثالث يهدي ابتسامة أو كلمة طيبة، فيسهم في بناء نسيج متكامل من الرحمة والإنسانية. وتحت مسميات الكرم، التبرع، أو الصدقة، تتلاقى محفزات أخلاقية وإنسانية ودينية، تجعل من العطاء ثقافة متجددة تنبع من القلب، وتصب في خدمة المجتمع.
تتفاوت دوافع العطاء بين الناس؛ فمنهم من يعطي بدافع أداء الواجب، ومنهم من يمنّ بما يقدم، وآخرون تفيض قلوبهم بالعطاء لأنهم ذاقوا مرارة الحاجة يومًا ما. هناك من يحركهم موقف إنساني مؤثر، فيسارعون لمواساة غيرهم وجبر خواطرهم، فيما يرى البعض في العطاء رسالة روحية ورسالة حياة. مهما اختلفت الدوافع، فإن النتيجة واحدة: نمو الروابط الإنسانية وتعزيز روح التضامن.
شواهد من الدين والعلم
العطاء سلوك إنساني وقيمة أخلاقية، أجمعت عليها الديانات السماوية والتجارب الإنسانية. وقد جاءت النصوص الدينية لتؤكد فضله، ومنها:
قوله تعالى: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾.
وقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً…﴾.
حديث النبي : «ما من يومٍ يصبح العبادُ فيه إلا مَلَكَانِ ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعطِ منفقًا خلفًا».
وقال رسول الله ﷺ: «صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة سرًّا تطفئ غضب الرب».
وقال أيضًا ﷺ: «داووا مرضاكم بالصدقة».
وقال الإمام علي : «استنزلوا الرزق بالصدقة».
وحديث الإمام الصادق : «الصدقة تدفع البلاء النازل وما لم ينزل».
ولا تقتصر أهمية العطاء على البعد الروحي وحده؛ فقد أكدت أبحاث منشورة في مجلات علمية رائدة مثل Science وNature Communications أن الإنفاق على الآخرين ينشّط مناطق السعادة في الدماغ ويمنح الإنسان شعورًا بالرضا يفوق ما يناله من الإنفاق على ذاته. كما أظهر تقرير Charities Aid Foundation البريطاني أن ثلاثة أرباع المتبرعين شعروا بأن أعمالهم الخيرية منحتهم معنى أعمق ورضًا أكبر عن حياتهم.
تنعكس هذه النتائج على الصحة النفسية والجسدية، حيث يرتبط العطاء بانخفاض مستويات التوتر ونشوء دوائر إيجابية من التعاون والرحمة في المجتمع.
قصص من الواقع: أثر العطاء يتضاعف
كم من موقف بسيط غيّر يومًا كاملاً أو حتى مسار حياة إنسان؟
في أحد المتاجر خارج الوطن وبالتحديد في كندا، وقف صديقي ينتظر دوره لدفع قيمة مشترياته ليكتشف فجأة أن ما بحوزته من النقود بالعملة المحلية لا يكفي لشراء جميع ما اختاره. أخبر الكاشير برغبته في ترك بعض الأغراض، لكن امرأة غريبة شهدت الموقف وتقدمت بسخاء لتسد العجز عنه. حاول الاعتذار، لكنها أصرت، رافضة أن يأخذ عنوانها أو يعيد لها شيئًا، مؤكدة أن كل إنسان قد يحتاج يومًا لعطاء كهذا. هكذا يحدث العطاء أثره؛ ليس فقط في قلب من تلقاه، بل في دوائر أوسع، إذ غالبًا ما يدفعنا الإحسان الذي نلقاه إلى إيصاله للآخرين في لحظة لاحقة.
أما صديق آخر وفي قريتي الطيبة أم الحمام بمحافظة القطيف، فقد مر بظرف مادي صعب بسبب بناء منزله. جاءه أحد المحسنين يطلب منه العون لمحتاجة، فوقف حائرًا بين متطلبات حياته والتضحية من أجل غيره. لكنه، رغم ضائقته، آثر المساعدة وقدم ما استطاع. وهذا الموقف يجسد بعمق مفهوم الآية الكريمة: ﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾. مرت الأيام حتى وجد أبوابًا من الخير تُفتح أمامه، ورزقًا لم يكن يتوقعه؛ ليوقن أن العطاء لا يُذهب المال بل يباركه، وأن يد الله مع المحسنين.
هذه النماذج، وغيرها كثير، تظهر أن العطاء ليس مجرد فعل آني، بل طاقة متجددة تزرع في النفس الطمأنينة، وفي المجتمع روح التضامن والتكافل.
كيف نبني ثقافة العطاء؟
تعزيز ثقافة العطاء لا يحتاج بالضرورة إلى المرور بتجربة الحرمان، بل يحتاج إلى القدوة والممارسة اليومية.
القدوة أولًا: يبدأ التغيير بأنفسنا، من خلال إدراكنا لأهمية العطاء وتجسيده عمليًا في تفاصيل الحياة. عندما نعيش هذه القيمة، نصبح مصدر إلهام للآخرين.
تربية الأجيال: تقع علينا مسؤولية ترسيخ أخلاقيات العطاء في نفوس أبنائنا ومن حولنا، وجعلها جزءًا من التربية اليومية—تمامًا كما نعلمهم النظام أو الاعتماد على الذات.
تجسيد القيم الإسلامية عمليًا: يجب ألا تظل القيم السامية، مثل الكرم والإحسان، شعارات، بل يجب أن نحولها إلى ثقافة معيشة ننقلها للأجيال القادمة بالفعل والعمل.
تعزيز العمل التطوعي: الانخراط في الأعمال التطوعية في المؤسسات والمدارس والمساجد يدعم روح الفريق والشعور بالمسؤولية الاجتماعية، وقد أثبتت الدراسات أن المجتمعات التي تنتشر فيها ثقافة التطوع أكثر ترابطًا وثقة.
تكريم المبادرات الخيرية: إبراز قصص الأفراد والمؤسسات الملهمة وتكريمها، لأن التقدير العلني للسلوك الإيجابي يخلق نماذج يحتذى بها ويدفع الجميع نحو العطاء.
أساليب يومية للعطاء الحقيقي
العطاء الحقيقي لا يقتصر على المال وحده؛ بل يمتد لكل صورة من صور الإحسان التي يصل نفعها للناس من حولنا:
الابتسامة الصادقة: تزرع الفرح وتنشر الأمل.
الجلوس مع الأبناء والإصغاء لهم: يمنحهم شعورًا بالطمأنينة والثقة.
زيارة المريض وصلة الرحم: تقوّي روابط المحبة والدعاء.
الأعمال الخيرية: كإطعام المسكين، كفالة اليتيم، أو بذل الوقت لدعم المحتاجين.
كلمة تشجيع أو يد عون عابرة: بذور عطاء يباركها الله وتعود بالنفع على الجميع.
الدعاء بظهر الغيب: أسمى صور العطاء الروحي.
مشاركة المعرفة ونشر العلم والمشورة الصادقة: ﴿من دلّ على خير فله مثل أجر فاعله﴾.
العناية بالبيئة والإحسان للحيوان:“في كل ذات كبد رطبة أجر”.
الجلوس مع كبار السن ومؤانستهم: إحسان معنوي أصيل.
استخدام التقنية في الخير: كإنشاء منصات لدعم المحتاجين أو حملات توعية مؤثرة.
حين يجود الإنسان بالخير، يجود الله عليه بالبركات ويفتح له أبواب الفرج. وكل من نال نصيبًا من مبادرات العطاء سيقف رافعًا كفيه إلى الله الكريم، داعيًا لمن أحسن إليه. فهل ثمة أكرم من أرحم الراحمين ليستجيب لتلك الدعوات؟
كل عطاء صغير يترك أثرًا عظيمًا في الروح والمجتمع. إن بذرة العطاء التي نغرسها اليوم ستزهر غدًا في القلوب والبيوت والأحياء. فلنكن جميعًا شركاء في زرع بذور الخير، وقدوة في الإحسان، ولنجعل كل يوم لنا حكاية جديدة مع العطاء—فبه تكتمل إنسانيتنا وتزدهر مجتمعاتنا، ويبقى أثرنا حيًا لا يمحوه الزمن.
نسأل الله أن يجعلنا من أهل الإحسان والصدقة الصادقة، وأن يمنحنا رضاه ورحمته وكرمه الدائم، وأن يرزقنا قلوبًا لا تعرف إلا الخير، وأعمارًا تزهر بالبركة والعمل الصالح.