السيدة زينب (عه)... منهجُ حياة
وُلدت السيدة زينب
في بيتٍ تتضوع منه رائحة الطهر والقداسة، بيتٍ تلتقي فيه أنوار النبوّة ببهاء الولاية. كانت ولادتها بشرى وفرحًا يملأ البيت العلوي، فهي البنت الأولى لسيّد الوصيين وبضعة الرسول، فنشأت في كنف مدينة العلم، وتربّت على محراب العبادة، وتفيّأت ظلال الفضيلة والعفّة ومكارم الأخلاق.
عاشت بين الحسن والحسين، وتشرّبت من معين الكرم والشجاعة والإيمان، فغدت سيدةً عظيمةً، بلغت من الكمال والعلم ما ترفع به الهامات وتستنير به الدروب.
المحطة الأولى: العفة... تاج زينب الخالد
في زمنٍ تُغلفه الشعارات البراقة، ويدّعي أصحابه أنهم أهل ”التحضّر والانفتاح“، تُقدَّم للمرأة وعود الحرية وهي تُسلب أنوثتها، ويُقال لها ”شاركي“ ليُلقى بها في بحرٍ يموج بذئابٍ متربصة.
لكن زينب
وقفت شامخةً في وجه هذا الزيف، لتقول بلسان حياتها: الحياء زين المرأة، والعفة درع كرامتها.
يروي يحيى المازني، وهو من علماء المدينة، أنه عاش زمنًا بجوار دار عليٍّ
، وما رأى زينب قط، ولا سمع صوتها، لفرط حيائها وستْرها. كانت إذا أرادت زيارة جدها المصطفى، خرجت ليلًا، وأبوها أمامها، وأخواها الحسن والحسين على جانبيها. فإذا وصلت إلى قبر النبي
، أطفأ أمير المؤمنين المصابيح خشية أن يراها أحد. وحين سُئل عن ذلك، قال: ”أخشى أن تقع عينٌ على شخص أختك زينب.“
أيُّ عظمةٍ هذه! وأيُّ حياءٍ يُضيء كالقمر في ليلٍ بهيم؟
المحطة الثانية: الكلمة... حين تتحوّل إلى سيف
كانت زينب
مدرسة في الخطابة، تمتلك يقين الإيمان، وجرأة الموقف، وبلاغة الحجة.
وفي كربلاء، وبعد أن سُقيت الأرض دمًا، لم تَهن ولم تَضعف، بل واجهت الطغاة بصوتٍ يجلجل في التاريخ:
”يا أهل الكوفة، يا أهل الغدر! أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة ولا هدأت الرنة... إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا... ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون.“
كلماتها كانت سيوفًا من نور، تشقّ ظلام الخيانة.
لم تكن تخطب لتنتقم، بل لتوقظ الضمائر النائمة. كانت تعرف جمهورها، وتدرك حاجاته، وتؤمن أن الكلمة حين تُقال بصدقٍ وإيمان، تُغيّر مجرى التاريخ.
المحطة الثالثة: القيادة الإيمانية
قال أحد المفكرين: ”كانت زينب هي المرأة التي يجب أن تكون، في الزمن الذي يجب أن تكون، وبالشكل الذي يجب أن تكون.“
وهكذا كانت...
امرأةً قائدةً لا تتزعزع، مؤمنةً راسخةً منذ طفولتها، واسعة الأفق، عميقة الفكر، تمسك بزمام الأحداث بثقةٍ وعزم.
قال عنها الإمام زين العابدين
:
”وأنتِ بحمد الله عالمة غير معلّمة، وفاهمة غير مفهّمة.“
فقد كانت عقل الركب الحسيني بعد كربلاء، وقلبه النابض، وصوته الذي حمل رسالة الشهداء من رمال كربلاء إلى قصر يزيد.
بقيادتها الحكيمة تحوّلت الهزيمة الظاهرية إلى انتصارٍ خالدٍ في الوعي والضمير الإنساني.
ختامًا
هكذا كانت زينب
: رمزًا للعفة، صوتًا للحق، وقلبًا نابضًا بالشجاعة والإيمان.
من يقرأ سيرتها لا يخرج كما دخل، بل يخرج أكثر وعيًا، أشدّ ثباتًا، وأقرب إلى الله.
فهي ليست قصةً تُروى، بل منهج حياة يُضيء للإنسان طريق العزّة والكرامة والصبر على التحديات.







