بمناسبة يوم السكر العالمي 14 نوفمبر

رحلة سلمى مع السكري… من الصدمة إلى الصمود

في الخامسة عشرة من عمرها، وكانت أحلامها تلهو في فضاءات الطفولة، باغت سلمى خبرٌ هبط عليها كالصاعقة. لم تكن تعرف عن السكري شيئًا، ولم يطرق بابه أحدٌ من أسرتها من قبل؛ لكنه اقتحم حياتها بوجهٍ باردٍ كضيفٍ ثقيلٍ لا يستأذن، فأعاد ترتيب ملامح أيامها على غير ما تشتهي.

بدأت الحكاية من زيارةٍ عابرة للمستشفى بعد تعبٍ أيّامًا متتابعة. فحوصاتٌ تتوالى، وأرقامٌ حمراء تتصاعد كإنذارٍ صامت. وبينما كانت عائدةً مع والدها، رنّ الهاتف.

— ”أين أنت؟ هل سلمى بجوارك؟ عودوا فورًا… قد تسقط في أي لحظة.“

خلال دقائق، كانت على سريرٍ بارد، وأمامها مشهدٌ لن تنساه: ممرضات يتحركن كأنهن نغمٌ في سيمفونيةٍ لا تتوقف، كل واحدة منهن تعرف دورها بدقة. أصوات الأجهزة ترسم خلفية المشهد، والوجوه البيضاء بين يديها كأجنحة ملائكة تتحرك بين الحياة والموت.

قالت الطبيبة بنبرةٍ حاسمةٍ وهادئة في آن:

— ”أنتِ مصابة بالسكري من النوع الأول.“

الخطأ الأول… ودرسُ البداية

بدت لها الإبرةُ سلاحًا غريبًا، وبدت الأرقامُ على الجهاز ككائنٍ عنيدٍ لا يلين. أخذت الأنسولين بعشوائية الخائف، وعادت للفحوصات؛ الأرقام ما تزال تتعالى. رفعت الطبيبة حاجب الدهشة:

— ”ألم تأخذي الأنسولين؟“

— ”بلى… كما تعلّمت. لكن النتائج لا تتغير!“

في استراحة الانتظار، جلست إلى جوارها مريضةٌ مبتسمة، تُمسك بيدها كما تُمسك الأمُ بخطى طفلتها الأولى:

— ”لا تقلقي… كلّنا أخطأنا في البدايات. التعلّم طريقُ السيطرة.“

دخلت سلمى جلسة التثقيف من جديد. كانت تصغي بقلبها قبل أذنها، تكتشف مواضع الخلل، وتدوّن بصمتٍ عهدًا صغيرًا مع نفسها: أن تُتقن الإبرة، وأن تكتب بدايةً جديدة.

غذاء العقل قبل غذاء الجسد

في عيادة التغذية العلاجية كان المكان هادئًا، لوحاتٌ تهمس: ”التوازن حياة“، ورائحة أعشابٍ تبعث رسالةً خفية: ”الصحة تبدأ من هنا“. جلست الأخصائية أمامها، وقالت بجملةٍ فتحت نافذةً في الجدار:

— ”الأنسولين وحده لا يكفي… الغذاء شريكُك الأول. لن نحرمك؛ سنعلّمك كيف تختارين ومتى وبأيّ قدر.“

رسمت دوائر وألوانًا توضّح نسب الكربوهيدرات والبروتين والخضار، وقدّمت مثالًا عمليًا لفطورٍ متوازن. ثم ابتسمت:

— ”السر ليس في الحرمان؛ بل في الميزان. قطعةٌ صغيرةٌ من الحلوى ممكنةٌ حين تقودينِ أنتِ السكر… لا حين يقودك.“

خرجت سلمى بخطةٍ مكتوبة… وبقلبٍ أشد وضوحًا. كانت تحمل بين يديها أوراقًا، لكنّها كانت تحمل في داخلها بوصلة.

مفاجآت السكر… هبوطٌ وارتفاع

السكري خصمٌ يملك دهاء المفاجآت. في مساءٍ هادئ، باغتها هبوطٌ حاد: رعشةٌ، عرقٌ بارد، ودوارٌ يسرق الأرض من تحت قدميها. أفزعها الخوف فاندفعت إلى الإفراط: قطعةُ حلوى كبيرة تلتها كأسُ عصيرٍ مركز. دقائق، ثم ارتفع السكر بجنون، ووجدت نفسها من جديد في الطوارئ.

هناك قابلت الدكتورة جمانة، بابتسامةٍ تُسكِت الفزع:

— ”نيّتُكِ طيبة، لكن الإفراط يُربك الميزان. لِهبوطٍ خفيف: ملعقةُ سكر أو نصفُ كوب عصير يكفيان. التوازن يا سلمى… لا الخوف.“

فهمت سلمى يومها أن معالجة الهبوط رقصةٌ دقيقة: خطوةٌ زائدةٌ قد تُسقط الراقصة.

النسيان… الخطر الخفي

صباحُ امتحانٍ نهائيّ. أوراقٌ تتطاير كأفكارٍ مستعجلة، والأنسولين يتيه بين الصفحات. عطشٌ شديد، إرهاق، ودوارٌ يسحبها إلى الطوارئ مرّةً أخرى. قلّبت جمانة الملف وقالت بجديةٍ رقيقة:

— ”مستوى السكر 380؛ رقمٌ لا يحتمل الأعذار.“

— ”نسيت… كنتُ مشغولةً بالامتحان.“

أطبقت جمانة كلامها كجرس إنذار:

— ”إنْ نسيتِ مفاتيحكِ بقيتِ خارج البيت… لكن إن نسيتِ الأنسولين، قد لا يكون هناك بيتٌ تعودين إليه.“

منذ ذلك اليوم، صار منبّه الهاتف حارسًا صامتًا لحياتها، وصارت حقيبتها لا تخرج بلا عُدّتها: قلمُ أنسولين، وجهازُ قياس، وسكّرٌ للطوارئ… ووعي.

من الخوف إلى القيادة

لم تنتهِ رحلة سلمى عند الأخطاء؛ بل بدأت منها. بفضل جلسات التثقيف ورفق جمانة، أدركت أن المرض لا يُهزَمُ بالقوة العمياء، بل بالمعرفة والصبر. لم تعد تلك الفتاة التي ترتبك أمام وخز الإبرة؛ صارت امرأةً تعرف أن كل وخزةٍ توقّع لها عمرًا جديدًا على صفحة التوازن. صارت ترى الأرقام لا كوحشٍ يطارِدُها، بل كخرائطَ تقرأها لتختار الطريق.

واليوم، حين تُسأل عن نصيحتها، تقول بصدقٍ هادئ كضوءِ صباح:

”كونوا لطفاء مع أنفسكم… السكري مليءٌ بالمفاجآت؛ قد يرتفع أو يهبط بلا سببٍ ظاهر. هذا لا يعني أنكم فشلتم، بل يعني أنّها طبيعةُ الطريق. لا تطلبوا الكمال؛ اطلبوا خطوةً صحيحةً كل يوم. واجعلوا الميزانَ قائدكم: توازنٌ في الطعام، تزامنٌ في الجرعات، وتفاهمٌ مع الجسد. الأهمّ… أن تقودوا المعركة بأنفسكم، لا أن تكونوا أسرى لها.“

أخصائي التغذية العلاجية