عقول متخصصة تقود الإدارة

برزت ظاهرة التحول من التخصص إلى الإدارة مع انطلاق تيار الإدارة العلمية، «مدرسة فكرية في الإدارة ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تهدف إلى تحسين الكفاءة الإنتاجية من خلال تحليل العمل وتطبيق الأساليب العلمية مثل، دراسة المهام بدقة، واختيار الافراد المناسبين، وتحقيق التكامل بين جهود الإدارة والعمال لزيادة الإنتاجية، وفصل المهام الإدارية عن التنفيذ، وغيرها..» الذي أسسه فريدريك تايلور، ”أبو الإدارة العلمية“ ثم تسارع انتشارها ككرة الثلج المتدحرجة مع توسع المؤسسات الصناعية والخدمية حتى غدت ظاهرة عالمية لا يمكن تجاهلها، لا سيما في مجالات التكنولوجيا والطب والهندسة، ولكن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه هنا هو:

لماذا يجمّد البعض من الأطباء والمهندسين والكوادر الفنية مساراتهم المتخصصة ليتجهوا نحو الإدارة؟ وهل هذا الانتقال يُعتبر تطور طبيعي في المسار المهني أم أنه انحراف عن الجوهر التخصصي؟ وفي المقابل، لماذا يتمسك الآخرون بميدانهم الفني العلمي رغم قدرتهم على الإبداع والابتكار؟ وما أثر هذا التباين على أداء المؤسسات وسوق العمل؟

يُعرّف المجلس الوطني للبحوث ”NRC“ والجمعية الأمريكية للإدارة ”AMA“ American Management Associationهذه الظاهرة على أنها " عملية انتقالية منهجية يتحول خلالها الفرد من دور فني/ تخصصي يعتمد على الكفاءة التقنية العميقة في مجال محدد إلى دور إداري /قيادي يتطلب مجموعة مختلفة من الكفاءات الاستراتيجية والتنظيمية مثل طبيعة المسؤوليات ومعايير الأداء، والهوية المهنية «الصورة الذاتية التي يكوّنها الفرد عن نفسه في عمله» والهيكل التنظيمي للسلطة

الأسباب والدوافع

ما اعتقده هو أن الأسباب والدوافع التي تقف وراء هذا التحول متعددة ومعقدة، فهُناك من يرى أن الإدارة تمنحه القدرة على التأثير، كما فعل أحد أطباء الأمراض المعدية حين انتقل لإدارة برامج وقائية شملت آلاف المستفيدين وأحدثت فرقا ملموساً في صحة المجتمع، وهناك من يقوده الطموح الشخصي والرغبة في المكانة الاجتماعية والاقتصادية، إذ تشير دراسة نشرتها Harvard Business Review 2021 إلى أن الرواتب الإدارية تزيد بمتوسط يتراوح بين 20% و40% مقارنة بالمسارات الفنية المتقدمة وهو ما يُحفز كثيراً من الكفاءات بالانتقال إلى الإدارة.

بينما يلجأ آخرون إلى هذا الطريق بدافع التجديد المهني وتجاوز الرتابة والملل، كما هو الحال مع ”ساتيا ناديلا“ الذي بدأ مساره مهندساً تقنيّاً ثم قاد مايكروسوفت في تحول استراتيجي هو الأضخم في تاريخها.

أما عن بعض المؤسسات التي تُوجِه خُبراءها دفعاً نحو الانتقال بدافع الحاجة إلى قادة يدركون عمق المهنة، كما هو الحال في شركات التكنولوجيا الكبرى، فإن تقارير ”ما كينزي“ لعام 2022 م تُشير إلى أن أكثر من 35% من مديريها التنفيذيين كانوا في الأصل مهندسين أو خبراء برمجة.

ومع ذلك يظل في المقابل من يرفض هذا الانتقال مهما كانت المغريات، فهناك جراح عالمي شهير رفض منصب المدير الطبي مرتين قائلا ”كل دقيقة في مكتب المدير تعني دقيقة أقل لإنقاذ حياة إنسان ما“ والسؤال الذي يفرض نفسه هنا:

لماذا يتمسك الآخرون بميدانهم الفني / العلمي مهما كانت الفرص والامتيازات؟ والجواب

هناك من يؤمن بأن كل ما يلمع يُغري، وبأن كل سلطة تُغني، ولكن هناك من يختار أن يبقى حيث تتجلّى ذاته لا حيث يُصفّق له الآخرون، إنهم أولئك الذين يتمسكون بميدانهم العلمي أو الفني رغم الإغراءات، لأنهم ينظرون إلى الحياة بعين أوسع من الكرسي والمنصب، فالإدارة تُعطي السلطة على الناس، بينما التخصص يُعطي القدرة على خدمتهم، ولذلك فإن رفضهم لمغانم السلطة، ليس انغلاقاً، بل ارتقاء وليس خوفاً من التغيير بل وفاء للمعنى الاعمق للوجود، فالإنسان يُقاس بما يتقنه من علم أو عمل لا بما يناله من منصب. وكما قال الأمام ُ على ”قيمة كل أمرئ ما يحسنه“ وكما قال سقراط " التمسك بالرسالة يبدأ من معرفة الهوية الحقيقية لا الانجرار وراء المناصب. ولعل من أبرز المبررات الموضوعية والشخصية لهذا التوجه:

1 - تسارع التطور العلمي: المجالات التقنية تتطور بسرعة هائلة، والانقطاع عنها يعني فقدان حالة التميّز والابتكار، فالجراح الذي يقضي ساعات في الإدارة يفقد تواصله مع التقنيات الجراحية الحديثة

2 - الطبيعة الشخصية: بعض العقول تُبدع في المختبرات أكثر من المكاتب الإدارية، فهذه عالمة الكيمياء ”جينيفر دادونا“ رفضت مناصب إدارية لتركز جهودها على البحث الذي غيّر العلم، والمخترع ”دين كامن“ صاحب سكوتر سيجواي يفضل ورشته على أي منصب

3 - رهبة المسؤولية: القيادة تتطلب مواجهة الصراعات واتخاذ قرارات صعبة وهو مالا يتحمله الجميع، وهناك من يكتفي بالرضا بالمكان الحالي كما هو الحال في قوقل حيث يختار بعض مهندسي الذكاء الاصطناعي البقاء في المسار الفني المتقدم مع الاستمرار في الحصول على نفس الحوافز التي يحصل عليها المديرون.

أمثلة ونماذج «ناجحة وفاشلة» في التحول من التخصص إلى الإدارة

لطالما شكل التحول من العمل الفني المتخصص إلى المناصب الإدارية تحدياً للعديد من الكفاءات، حيث تبرز هنا حكايات ملهمة عن نجاحات باهرة مثل:

1 - إيلون ما سك: بدأ كمبرمج ومؤسس لشركات تقنية مثل PayPal لكنه تحول إلى قيادة شركات كبرى مثل tesla وSpaceX ومع ذلك، ما زال يغوص في التفاصيل الفنية مما يظهر توازناً بين القيادة والتخصص

2 - الدكتورة منى المرشود: ”جراحة التجميل“ السعودية - التي رفضت مناصب عديدة لتركز على جراحات الحروق المعقدة، وأسست مركزاً متخصصاً لعلاج ضحيا الحروق

3 - مديري السابق المهندس السعودي المرحوم ”جاسم آل قواحمد“ رحمة الله، الذي رفض أن يُصبح مديراً تنفيذياً تقليدي للمشاريع في الهيئة الملكية بالجبيل، وفضل أن يُدير العمل الخاص به كمصمم معماري في مجال الاستشارات الهندسية والمساحية لتطوير المخططات والرسومات المعمارية في المملكة.

وأخرى محزنة عن إخفاقات ذريعة تحمل في طياتها دروساً بالغة الأهمية لكل من يفكر في هذه النقلة المصيرية ومنها.

الطبيب الجراح: الذي تولى إدارة المستشفى فانشغل بالأوراق عن العمليات والنتيجة: تراجع مستوى أداء الخدمات وارتفاع معدلات استقالة الكوادر الطبية.

المهندس الفني: الذي تمت ترقيته لإدارة شركته الناشئة ولكن افتقاره للمهارات القيادية أدى إلى إهمال الجانب التقني وانهيار المشروع.

والعالمة الكيمائية: التي قبلت منصباً إدارياً رفيعاً فإذا بها تفقد تواصلها مع المختبرات دون أن تحقق نجاحاً إدارياً يُذكر.

أثر التباين على أداء المؤسسات وسوق العمل

هذا التباين بين من يتحولون إلى الإدارة ومن يتمسكون بالتخصص يترك أثراً مباشرا على المؤسسات وسوق العمل، فمن جانب، فإن انتقال الخبراء إلى القيادة يثري عملية اتخاذ القرار وينقل الخبرة الفنية إلى مائدة التخطيط، ويعزز من قدرة الفرق على الإبداع والشعور بالتقدير، ولكن من جانب آخر فإن هذا التحول قد يؤدي إلى نزيف في الكفاءات الميدانية، كما حدث في إحدى المستشفيات الحكومية حين تولى جراح منصب المدير العام ففشل في إدارة الموارد فانخفضت جودة الخدمات الطبية وارتفعت نسب الاستقالات بشكل لافت.

وهنا تتضح خطورة غياب التأهيل الإداري المناسب، فبحسب تقرير صادر عن Gallup عام 2020 فإن 82% من القادة الإداريين حول العالم لم يتلقوا أي تدريب رسمي في الإدارة قبل تولي مناصبهم وهو ما يُفسر حالات الفشل المتكررة رغم نجاحهم في تخصصاتهم الأصلية. وكما قال بيتر دراكر " النجاح في التخصص لا يعني النجاح في القيادة.

وعلى مستوى سوق العمل: نجد أن هذه التحولات تزيد من فجوة الطلب على المتخصصين الفنيين لتعويض من انتقلوا إلى الإدارة، كما تدفع المؤسسات إلى الاستثمار في برامج التدريب القيادي لتأهيل كوادرها، وفي بعض الدول مثل اليابان وألمانيا طُوّرت أنظمة ”المسار المزدوج“ «وهو نهج مرن يهدف إلى تحقيق التوازن بين خيارين أو استراتيجيتين مختلفتين، إما لزيادة الفرص الناجحة أو لتقليل المخاطر» بحيث يمكن للفرد أن يختار إما مساراً إدارياً أو مساراً فنياً متقدماً مع مساواة في الامتيازات لتفادي خسارة الخبرات وإعطاء حرية أوسع للأفراد في تحديد مساراتهم.

ومن ذلك كله نستنتج أن التحول من التخصص إلى القيادة ليس مجرد مسار مهني بل استراتيجية تأثيرية، بمعنى أن النجاح فيه يعتمد على قدرة الفرد على توظيف خبراته التخصصية في نطاق أوسع، وفهم طبيعة المسؤولية القيادية، والاستعداد لمواجهة تحديات اتخاذ القرار.

والمؤسسات الناجحة هي التي توفر مسارين متوازيين يتيحان لكل فرد الاختيار بين التخصص أو القيادة دون التضحية بالخبرة أو التحفيز، فالتوازن بين الإبداع الفني والقيادة الاستراتيجية تعزز قدرة المؤسسات على الابتكار وتحقق نتائج ملموسة، ويضمن للخبراء الشعور بالرضا المهني والاجتماعي مع استمرارهم في التطور الشخصي والمهني، وفي النهاية كما قال جون كينيدي ”القيادة والتعلم لا ينفصلان أبدأ“

التوازن بين القيادة والتخصص

إنني اعتقد أن الاختيار بين التخصص والقيادة ليس ”صحيح“ أو ”خاطئ“ بل هو انعكاس للشغف والقدرة على صناعة التأثير، وأن النجاح الحقيقي يكمن في فهمك لأين تُحدث فرقاً أكبر: هل في المختبر وغرفة العمليات أم في قاعات القيادة ومراكز صنع القرار، وكما قال ستيف جوبز ”العمل سيشغل جزءاً كبيراً من حياتك، والطريقة الوحيدة لتحقيق الرضا هي أن تؤمن بأنك تقوم بعمل عظيم“

وفي الختام يمكننا أن نقول: ليس المهم أين تقف بل كيف تُغيّر العالم من موقعك، وأن القيادة الحقيقية ليست بالمنصب أو بالسلطة، بل بالقدرة على توظيف المعرفة والمهارة في خدمة الآخرين والمؤسسات والمجتمع وأنه لا بد أن يكون لدى كل فرد رؤية واضحة وإدراك كامل لمسؤولياته، وقدّرة على التوازن بين شغفه الفني وطموحه القيادي، فسواء أخترت البقاء في تخصصك أو الانتقال للقيادة، المهم أن يكون قرارك مدروساً وواعياً ويخدم هدفاً أسمي من مجرد الصعود الوظيفي. وكما قال بيتر دراكر " ليس كل عالِم قائدا، وليس كل قائد عالم.