دمعة الرجاء... حين التقَت القصّتان
كان يقف عند حافة الرصيف، يدفع عربة ولده المصاب بالشلل الرباعي، ذلك الفتى الذي بلغ السادسة عشرة من عمره، وقد غلّف الصمت ملامحه. أما وجه الأب، فكان وحده يروي حكاية من الحزن العميق، فيها يأس أنهك الجبين، ووجع لا تخطئه العين.
في تلك اللحظة، وقف رجل قريب يتأمّل المشهد بصمت. كانت عيناه تلاحقان خطوات العربة البطيئة، وملامحه تتغيّر شيئًا فشيئًا… حتى ترقرقت دمعة حارة على خده.
اقترب بخطى هادئة، وقال بلطف: — هل هذا ابنك؟
أجابه الأب بلهجة حادة كأنها اصطدمت بجدار من الألم: — نعم… هذا ابني! وماذا تريد؟
قال الرجل بصوت متهدّج: — لا تحزن يا ولدي، هذا امتحان من الله… فاصبر واحتسب.
قاطعه الأب بعين مرهقة ونبرة متعبة: — رجاءً، لا تُلقِ عليّ محاضرات… ما أحمله في صدري يكفيني.
سكت الرجل لحظة، ثم قال برجاء: — اسمح لي بدقيقتين فقط... أروي لك شيئًا من قصتي، ثم أرحل.
تنهد الأب وهو يتفقد ابنه بعين منهكة: — تكلّم… إن كنت مصرًّا، فزمني ليس بيدي.
قال الرجل، وقد بدا عليه الوقار والأسى:
— كنيتي ”أبو خليفة“، وأنت ما كنيتك؟ قال الأب، بنبرة لا تخلو من الانفعال: — كنيتي ”أبو سامي“.
قال أبو خليفة بابتسامة حزينة: — أعتذر لإزعاجك… لكن ربما تكون قصتي بلسمًا لوجعك.
تابع بصوت يحمل نبرة وجعٍ دفين: — كان لي ثلاثة أبناء، أصيبوا جميعًا بالشلل الرباعي… تمامًا كما هو حال ابنك. أنا وأمهم نذرنا أعمارنا لخدمتهم، لم نذق طعم الراحة يومًا، قضينا سنواتنا في أروقة المستشفيات، بين الفحوصات والتحاليل والعلاجات… أنفقت كل ما أملك، فقط لأراهم يبتسمون، ولو لمرة واحدة.
ثم صمت قليلًا، وكأن ذاكرته سافرت إلى لحظة قديمة… قال وهو يشد على كلماته: — لا أنسى ذلك اليوم… حين وقفت أمام الطبيب بعد تشخيص اثنين من أولادي، نظر إليّ بحزن وقال: ”أبو خليفة، حالة أولادك وراثية، ولا علاج لها… لكنهم بحاجة إلى رعاية طبية مستمرة، وأُبوّة دافئة. هذا أقصى ما نستطيع تقديمه.“
نظر إليّ طويلًا، ثم أردف: ”كن لهم الحياة… فأنفاسهم معلّقة بصبرك.“
خفض أبو خليفة صوته كأنما يناجي ظلال روحه: — من يومها، حملتُهم في قلبي قبل أن أحملهم على كتفي… عاهدت نفسي أن لا أبخل عليهم بساعة، أن أكون لهم السند، ولو أفنيت عمري كله.
ثم أطرق برأسه، وقال: — قبل أسبوع… ودّعتُ آخرهم. كان في عمر ولدك تقريبًا. وقبله رحل أخَوَاه، الواحد تلو الآخر… وكل مرة كنت أفقد فيها أحدهم، كنت أفقد شيئًا من روحي. ومع هذا، كانت أمهم تمسح دموعي، وتهمس لي: ”يا أبا خليفة… هذه أمانة، وقد استردّ الله أمانته.“
رفع عينيه نحو السماء، وصوته يرتجف: — عندما غاب آخرهم، أحسست أن الرحمة انسحبت من بيتي… كأن الحياة توقّفت.
ثم تابع، وصوته يمتزج بالحزن والشكر معًا: — لكن الله… الله لا يُخلف وعده. لقد أخذ مني ثلاثة من أولادي، لكنه رزقني بعدهم ستة أطفال آخرين، ملأوا البيت فرحًا… وأعادوا إلى قلبي شيئًا من الحياة. إنهم هبة السماء بعد صبرٍ طويل.
نظر إلى أبي سامي نظرة محبة وقال: — لا تقل ”أف“، بل قل: ”الحمد لله“. ابنك ما زال بين يديك… وكل لحظة تقضيها معه، هي نعمة تمشي على الأرض.
ثم وضع يده على كتف أبي سامي، وربّت عليه بلطف، ومضى.
جلس أبو سامي إلى جانب عربة ولده، ومسح على رأسه بحنان، كأن قلبه انفتح على معنى جديد. وانفجرت من عينيه دمعة، لكنها لم تكن دمعة يأس… بل دمعة رجاء.
تأمل وجه ولده، وكأن نورًا جديدًا أضاء ملامحه، همس في أذنه بصوت مبلل بالحب: — سامحني يا بُني… كنت أراك وجعًا، ولم أرَك نعمة. كنت أخشى مصيرك، ولم أدرك أن الله وهبني بك رسالة لا يحملها سواي.
رفع رأسه إلى السماء، وقال بقلب خاشع: — يا رب، أعنّي لأكون عبدًا شاكرًا… ولأكون لابني كما كنتَ لي: رحيمًا، قريبًا، حنونًا.
ثم نهض، وابتسم لأول مرة منذ شهور، وقال لابنه: — هيا يا بُني… لنمضِ معًا، فكل خطوة نخطوها الآن، هي طريق نحو النور… ونحو الحياة.
ومضيا… والريح من خلفهما كانت تهمس: ”ما دام في القلب صبر… فثمّة دومًا أمل.“