الدكتور باقر والحاج عثمان… قصص بين التوثيق والنسيان

ألم أقل لكم أن توثقوه في“ بودكاست تمرة ”؟! لقد خسرناه دون أن نسمع قصته

بهذه الكلمات عاتبنا أحد الأصدقاء بعد رحيل الحاج عثمان أبو الليرات رحمه الله.

كان اسمه فعلًا في قائمتنا، لكن الموت لا ينتظر أحدًا، ولم يكن بمقدورنا أن نغطي كل الشخصيات أو نركض خلف كل الحكايات قبل أن تُغلق أبوابها. فكل اسم يُقترح ليس مجرد سطر في دفتر، بل مشروع توثيقي مرئي يحتاج إلى بحث ولقاءات وتصوير وإنتاج.

على الضفة الأخرى، حين رحل البروفيسور الدكتور باقر العوامي، كان المشهد مختلفًا. كتب الله أن تضغط أيدينا زر تسجيل الكاميرا قبل أن تخطفه يد الغياب. وثقنا جزءًا من سيرته في حلقة بعنوان ”نصف قرن في طب الأطفال“.

لم تكن مجرد استعراض لمسيرة مهنية، بل وثيقة مهمة عن مرحلة تاريخية وشهادة حيّة عن رجلٍ نذر علمه للناس. وحين سُئل عن سبب عدم تقاعده رغم تقدمه في العمر، أجاب:

”لدي علم، ولا بد أن أقدمه للناس… راحتي الحقيقية في العطاء.“

وكان يكرر في جلسات الإعداد:

”لا أريد الحديث من أجل الحديث، بل أن أقول ما ينفع.“

هذا التوثيق البسيط كشف لنا جوانب لم تكن معروفة على نطاق واسع. لمسنا عفويته وصدقه، فكانت الحلقة ومقتطفاتها من أكثر المواد انتشارًا، تجاوزت ملايين المشاهدات وترك أثرًا عميقًا.

شخصيًا - وأظن أن كثيرين مثلي - لم نكن نعلم أنه لعب دورًا محوريًا في الدفع بتشريع فحص ما قبل الزواج، عبر دراسات وجهود امتدت لسنوات انعكس أثرها على المجتمع بأسره. هذه المعلومة وحدها كافية لتبين قيمة التوثيق في كشف إنجازات مطمورة.

بعد رحيله، تحولت حسابات ”تمرة“ إلى ما يشبه دفاتر عزاء رقمية. يدخل الناس ليشاهدوا مقاطعه، يترحمون عليه، ويعيدون نشرها كذكرى باقية. لكن تلك المقاطع لم تكن مجرد أرشيف بعد الفقد، بل نافذة مفتوحة منذ حياته، يتابعها الناس ليستفيدوا من تجربته ويستلهموا منها، ثم تصبح بعد رحيله شاهدًا حيًا يواصل الإلهام.

من هنا، يصبح التوثيق ضرورة لا ترفًا. فهو ليس نزوة إعلامية، ولا مشروعًا فرديًا، بل عمل جماعي يحتاج إلى باحث يتقصى، ومصور يلتقط اللحظة، ومُعدّ يحاور بوعي، وفريق يحوّل المادة الخام إلى وثيقة باقية. وما كان لهذا الجهد أن يرى النور لولا من بادروا بالدعم، فكانوا الشركاء الحقيقيين الذين أدركوا أن التوثيق مسؤولية تجاه الذاكرة الجمعية.

ولكي يتحول هذا الوعي إلى ممارسة، نحتاج إلى إنشاء أرشيف مرئي محلي مفتوح للصور والروايات، وإطلاق ورش تدريب للشباب على فنون التوثيق، وتشجيع المؤسسات على رعاية مبادرات تحفظ الوجوه والقصص قبل أن تغيب.

نحن من نقرر: أن نصنع ذاكرة حيّة كما حُفظ جزء من سيرة الدكتور باقر العوامي، أو نترك القصص ترحل كما رحلت قصة الحاج عثمان. والأمل أن لا تبقى المقابر أغنى بذكرياتنا من حياتنا.