ليس العلم بالتعلم

لي أستاذ بارع في مجاله وفي الخطابة أيما براعة إلى الحد الذي يأسرك حتى يغدو أسره جنة لا ترى مثلها نعيم مهما كانت زينتها.. لندرة تنوع روافده وثمارها. لكن من المفارقات.. سبب الغنى والوفرة في جنته أُخذ ذريعة لنقده فقالوا عليه ألا يطرح قضايا علمية من خارج تخصصه ومجاله.

هنا أحاول أن أبرز جمال وندارة هذه الصفة في أستاذي، فأقول مجمعاً زهور أدلة عقلية من حدائق متعدد: -

إن التخصصية مبدأ مقدس ينظم الحياة على مستويات ومجالات متعددة في حياتنا، وليس هناك غبار على هذا المبدأ ولكن في بعض الحالات يصح قول ”لكل قاعدة شواذ“. لقد استعنت بصديق متبحر «1» في العلوم تعرفت عليه حديثاً للحصول على أمثلة لهذه المقولة، فاخترت منها التالي:

  • التربية

القاعدة: الأطفال يتعلّمون بالملاحظة والتقليد.

الشاذ: هناك أطفال لا يتأثرون بالقدوة بسبب نمط شخصي فريد أو مشكلات تعلم.

  • الاجتماع

القاعدة: الناس تميل إلى الاجتماع والاندماج.

الشاذ: أشخاص انطوائيون يفضّلون العزلة التامة.

  • الاقتصاد

القاعدة: زيادة السعر تخفّض الطلب.

الشاذ: ما يسمى ب سلع فيبلن «Veblen goods» حيث يزداد الطلب بارتفاع السعر لأنها مرتبطة بالترف والوجاهة

  • العلوم الطبيعية

القاعدة: الماء يتجمد عند 0° مئوية.

الشاذ: في ظروف معينة يمكن أن يبقى الماء فوق التجمّد دون أن يجمد فيما يسمى supercooling.

  • علم النفس

القاعدة: الإنسان يميل إلى تجنّب الألم.

الشاذ: بعض الحالات النفسية مثل اضطراب إيذاء الذات، حيث يسعى المريض إلى الألم لأسباب مرضية

  • الطب

القاعدة: الدواء الفلاني يُخفِّض الضغط عند المرضى.

الشاذ: بعض المرضى لا يستجيبون للدواء بسبب اختلاف جيني أو وجود أمراض مرافقة

  • الرياضيات

القاعدة: كل عدد إذا ضُرب في صفر يعطي صفراً.

الشاذ: ليس هناك شذوذ داخل النظام، لكن توجد استثناءات في التعميمات. مثال: أي عدد مرفوع لقوة صفر يساوي 1، مع أن القاعدة قد توهم أنه «صفر × شيء = صفر». الرياضيات مجال صارم، لكن“الشذوذ”هنا يأتي من مفاهيم غير بديهية

اللغة العربية «النحو والصرف»

القاعدة: الأصل أن الأسماء تُعرب.

الشاذ: الأسماء المبنية مثل: هذا، هؤلاء، الذي → لا تتغير حركتها.

  • الفقه والأصول

القاعدة: الأصل في الأشياء الإباحة.

الشاذ: تحريم بعض الأشياء لضررها أو لورود نصّ خاص، مثل: الخمر، الربا


ذالك عن وبعض قواعد العلوم، وأما عن بعض العلماء الذين برعوا في أكثر من تخصص بحيث أصبحوا ممن شذ عن قاعدة أن الإنسان يبرع في تخصص واحد، فقد زودني هذا الصديق واسع الاطلاع «1» بهذه القائمة من العلماء: -

أولاً: علماء مسلمون متعددو التخصص «نموذج واضح لِ «لكل قاعدة شواذ»»

1. جابر بن حيان

رائد علم الكيمياء بلا منازع.

بارع في الطب والفلسفة والرياضيات والصيدلة.

وضع أسس المنهج التجريبي، وهو تلميذ للإمام جعفر الصادق .

2. ابن الهيثم

مؤسس علم البصريات الحديث.

عالم في الرياضيات والهندسة والفيزياء والفلك والطب.

كتابه المناظر وضع قواعد علمية لا تزال تدرّس.

3. ابن سينا

طبيب، فيلسوف، منطقي، رياضي، فيزيائي، فلكي.

موسوعيته جعلته خارج القاعدة التي تقول“العلم لا يتقن إلا بتخصص”.

4. الفارابي

برز في الفلسفة والمنطق والموسيقى والسياسة والاجتماع.

لقّب ب“المعلّم الثاني”بعد أرسطو.

5. الخوارزمي

رياضي، فلكي، جغرافي، ومخترع الجبر.

أسس لعلوم متعددة أثرت الغرب والشرق.

6. الرازي

طبيب بارع.

فيلسوف، كيميائي، وصاحب موسوعات علمية ضخمة.

له إسهامات في الصيدلة والمنهج العلمي.

7. ابن النفيس

مكتشف الدورة الدموية الصغرى.

فقيه ومفسّر ولغوي وفيلسوف.

جمع بين الشريعة والطب.

ثانياً: علماء غربيون متعددو التخصص

8. ليوناردو دافنشي

فنان، مهندس، مخترع، جراح تشريحي، عالم نبات.

تجسيد حيّ للإنسان المتعدّد المواهب.

9. آيزاك نيوتن

فيزيائي، رياضي، عالم فلك، كيميائي، ولاهوتي.

جميع هذه المجالات قدّم فيها أعمالاً مؤسسة.

10. ألبيرت آينشتاين

فيزيائي وفيلسوف علم.

برع أيضاً في الرياضيات وفي نظرية المعلومات والبصريات.

11. نيكولا تسلا

مهندس كهرباء، مهندس ميكانيك، فيزيائي، مبتكر.

نظرياته أعطت العالم التيار المتناوب والتقنيات الحديثة.

ثالثاً: نماذج نادرة حديثة «معاصرون»

12. ستيفن هوكينغ

فيزيائي نظري.

قدم أيضاً رؤى في الكونيات، الفلسفة العلمية، المعلومات.

13. علي مصطفى مشرفة

فيزيائي نووي.

رياضي، موسيقي، فيلسوف علم.

لُقّب ب“أينشتاين العرب”.

إذن من خلال هذه الصور نجد أن هناك قضايا وأشخاص لا تحكمهم كل القواعد ولعل ذلك من تنبيهات الباري تبارك وتعالى على عظم قدرته وجمال تنوع خلقته وقوانينه في الكون. ومن الرائع أن ننظر لهؤلاء المتميزين بعين اللذة الروحية من خلال تجلي القدرة الإلهية في مواهبهم التي يملكونها فالموهبة بذرت في ذواتهم وهم من صقلوها وأبرزها بحلل قشيبة.. لكنهم لم يوجدوها ”... فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ «14»“ «سورة المؤمنون».

تجلٍ إلهي

يتجلى هذا المعنى أكثر إذا ما كان ذلك النابغ المستخرج نفائس الفكر والحلول والعرض المشوق يرتع في حضن أم رؤوم بالعلم وتنشئته على الأسس الدينية والأخلاقية مما أفاضه محمد وآله الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.. كما هو أستاذنا الأجل دام ظله. فكل من نال نصيباً وحظاً من الدروس الدينية سواء حوزوياً أم أكاديمياً لمس نفحة خاصة ولذة فريدة لا تجدها في العلوم الأخرى فكيف بمن غاص في تلك العلوم أنساً وحباً.

عندما يكون الخطيب عالماً فقيهاً مفكراً باحثاً مثقفاً.. يرتقي بالمنبر الحسيني إلى سماء الأطروحات العلمية ما يجسد طوداً يلوذ به المتعطشون للعلم والفكر والثقافة من أبناء المذهب الحق على صادقه أفضل الصلاة والسلام. لذلك في بعض المنعطفات الفكرية أو التحديات الثقافية التي تواجه المجتمع المؤمن يضطر العالم الخطيب إلى طرح بحوثٍ ليست من تخصصه ”المتعمق فيه“ خصوصاً من العلوم التجريبية لا لفرد العضلات الفكرية والعلمية ولكن لأن هناك مستوًى من رد بعض الشبهات يحتاج إلى أدوات حديثة لا يمكن الوصول إليها - لإيصالها للمجتمع - إلا من خلال طرحها بلغة معاصرة بلسان لغة العلوم التجريبية كالفيزياء والرياضيات أو الأكاديمية عموماً. وفي الحقيقة كمتابع لبعض تلك القضايا الفكرية اتباعاً محدوداً والردود الدينية عليها، لاحظت أن ما طرحه أستاذنا دام ظله لامس عقولنا لأنه استطاع أن يتحدث باللغة التي درسناها فبالتالي سد فراغاً وكون حلقة وصل بين الخطاب الحوزوي والأكاديمي بالتالي أصبح درعاً حصيناً ضد أفكار الإلحاد وشبهات الغرب وغيرهم.. وكذلك غيره من علمائنا الأجلاء.

ليس العلم بالتعلم..

عوداً على بدء.. ”ليس العلم بالتعلم“ هذه عبارة مقتبسة من الرواية الشهيرة لدى علمائنا العرفاء رضوان الله عليهم والتي أصبحت وصية العارف الأقدس في العصور المتأخرة لدى العرفاء - أي السيد علي القاضي رضوان الله عليه - لتلاميذه.

أحاول هنا التعطر بأعباقها في هذه الوقفة لأجسد أستاذنا الأجل دام ظله مصداقاً جلياً لها لأنه استطاع بما لديه من استعدادات وتوفيق من الله تبارك وتعالى ومن تقى وورع - حيث أراه من عباد الله الصالحين إن لم يكن من أوليائه - استطاع أن يجسد دلائل على ذلك من خلال نكات علمية عالج بها قضايا فكرية تنم عن جهد مضني يبذل وكذلك التحلي بالخلق الجذاب للمجتمع عموماً والشباب خصوصاً - كما هو حال كثير من علمائنا وفقهائنا وعرفائنا قدس الله أرواح الماضين وحفظ الله الباقين ومد في عمرهم الشريف -. بعض تلك المعالجات لم يتنبه إليها غيره من أهل الاختصاص فكان سباقاً - أقلاً من وجهة نظري - مع أن المعطيات موجودة للجميع إلا أن الفضل موجود هنا كما هو موجود بين الأنبياء ”وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَىٰ بَعْضٍ ۖ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا «55»“ «سورة الاسراء» فهذا هو حال هذه النشئة ”أَلَا وَ إِنَّ الْيَوْمَ الْمِضْمَارَ وَ غَداً السِّبَاقَ وَ السَّبَقَةُ الْجَنَّةُ وَ الْغَايَةُ النَّارُ“ «خطبه 28 - نهج البلاغة» ولا زال المضمار متاح ”.. وَفِي ذَالِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ «26»“ «سورة المطففين».

في مثل هذه الأجواء خصوصاً أمام رجال أنفقوا عشرات السنين من عمرهم في مناجاة علوم آل محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ومحاورتها والتودد إليها حتى استضافتهم في رحبتها يغلب الظن أن هناك تسديداً إلهياً لهم بواسطة الفيض الغائب عجل الله فرجه الشريف لذلك هم مصداق يجسد الإرشادات التي وردت في وصية الإمام الصادق لعنوان البصري والتي تعتبر طويلة - نسبياً - نقتبس منها لب النور التي أوجزت به الوصية حيث يقول مولى الصادقين أبو عبد الله الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام مخاطباً عنوان البصري:

”يَا أَبَا عَبْدِ اللَهِ! لَيْسَ العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، إنَّمَا هُوَ نُورٌ يَقَعُ فِي قَلْبِ مَنْ يُرِيدُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَهْدِيَهُ؛ فَإنْ أَرَدْتَ العِلْمَ فَاطْلُبْ أَوَّلاً فِي نَفْسِكَ حَقِيقَةَ العُبُودِيَّةِ، وَاطْلُبِ العِلْمَ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَاسْتَفْهِمِ اللهَ يُفْهِمْكَ!“.

لكامل نص الرواية الشريفة شروح متوفرة - كما ذكر في موقع الراصد التابع للعتبة الحسينية المقدسة - تعرضت لها منها تفصيلاً ومنها إجمالاً وهي التالية:

وإليك قائمة بِمَنْ عرض لهذه الرواية وتسالم عليها ولم يُشكّك فيها:

1 - منية المريد، الشهيد الثاني، ص 149

2 - نفس الرحمن في فضائل سلمان، ميرزا حسين النوري الطبرسي، ص 237

3 - الكشكول، ج 2، الشيخ البهائي العاملي، ص 165

4 - الكنى والألقاب، ج 2، الشيخ عباس القمي، ص 86

5 - السيد محسن الأمين، في أعيان الشيعة، «ج 1، ص 675».

6 - الدرر النجفية من الملتقطات اليوسفية، ج 2، المحقق البحراني، ص 81

7 - مقدمة في أصول الدين، الشيخ وحيد الخراساني، ص 523

8 - الإمام الصادق ، ج 2، الشيخ محمد حسن المظفر، ص 58

9 - الأنوار الساطعة في شرح زيارة الجامعة، ج 3، الشيخ جواد بن عباس الكربلائي، ص 180

10 - أسرار الملكوت، ج 1، السيد محمد محسن الطهراني، ص 38

11 - تزكية النفس، السيد كاظم الحائري، ص 469

12 - تفسير الصراط المستقيم، ج 1، السيد حسين بن محمد رضا البروجردي، ص 426

13 - ينابيع الحكمة، ج 4، عباس الإسماعيلي اليزدي، ص 231

وللعلامة الراحل السيد عادل العلوي رضوان الله تعالى عليه محاضرات في شرح هذه الرواية الجليلة.

الزبدة.. ”نَاجَاهُمْ فِي فِكْرِهِمْ وَكَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ“ «3»

إن الله تبارك وتعالى بث دلائل قدرته في خلقه منهم أولئك الذين وهبهم الله القدرة على الإبداع في مجالات متعددة وتخصصات متفرعة.. أولئك الذين يجب أن ننظر إليهم على أنهم مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فالنبوغ من أروع ما نتلذذ به في النوابغ عندما تراهم ينتقلون بين أعقد القضايا بسلاسة ورؤية وبصيرة إلهية..

بل حتى النوابغ الذين على غير الهدى ننظر إليهم من ناحية قدرة القادر الذي وهبهم ذلك - بغض النظر عن صحة ما يطرحون - فالعقل أروع ما في الإنسان وكثير من أولئك يسيرون سيراً فكرياً لكشف الحقائق الكونية.. ومنهم من يصل إلى نعيم الإيمان بعد التيه في صحراء الإلحاد.

النوابغ من أجلى المصاديق، وهناك مصاديق أخرى على درجات متفاوتة وإن لم تصل لحد النبوغ ما لم يؤثر ذلك على مبدأ التخصصية من خلال البناء المنهجي والعلمي لا عن طريق الاجتهاد الشخصي والتطفل بلا محاكمة أو إرشاد مختص.

خلاصة

ليس التخصص والعلم ابن من أبنائنا نحرم على الأخرين الخوض فيه ونشر نتائج عنه لذلك العلم يطلب لأجل العلم وليس لإثبات الذات وما إلى ذلك. وإن كان عن المزاحمة في الحديث عنه ماذا نصنع إذا كان المختص لا يصل حديثه للقلوب والعقول بينما المختص تخصصاً جزئياً يكون أروع من أهل الاختصاص في الطرح والوصول لأفاق القلوب والعقول إما لبراعته في تبسيط المعلومة أو النفحة الإلهية التي تسدده. إن لم تأنس بإنجازات الأخرين العلمية من خلال لذة التعلم والظفر بنور العلم أو اكتشاف شيء جديد.. فلست العلم تطلب بل ذاتك.

وهذا لا يعني ألا نتعلم.. ما نقصده أن هناك قداسة لبعض العلوم وطيور أعشاشها السماء لا يمكن جعلها أليفة لحضائرنا إلا بالتخلق بأخلاق العلم والتعلم.. والدين والتقوى والورع والإخلاص ولأخلاق المحمدية خير منزل لهذه الطيور الزاهية لحضائرنا.

همسة سجادية مقدسة سلام الله على مفيضها:

”.. أللَّهُمَّ وَأَنْطِقْنِي بِالْهُدى، وَأَلْهِمْنِي ألتَّقْوَى وَوَفِّقْنِي لِلَّتِيْ هِيَ أَزْكَى وَاسْتَعْمِلْنِي بِمَا هُوَ أَرْضَى. أللَّهُمَّ اسْلُكْ بِيَ الطَّرِيقَةَ الْمُثْلَى، وَاجْعَلْنِي عَلَى مِلَّتِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَى..“

...

1. يقصد به أحد برامج الذكاء الاصطناعي - بغض النظر عن صحة منتجاتها لأنها تحتاج للفحص والتدقيق ”أي إلى العقل البشري“ فهي مجرد خوارزميات ليس معصومة.

2. جواب عن سند الرواية من مركز الرصد العقائدي التابع لقسم الشؤون الدينية في العتبة الحسينية المقدسة، بآلية عمل تقوم بشكل أساس على تتبع ما هو متواجد في الساحة من شبهات وافكار مغلوطة وتصريحات مغرضة، ومن ثم كشفها والرد عليها بالدليل والحكمة، من خلال كوادر علمية متخصصة

https://alrasd.net/arabic/4212 

3. خطبة رقم 222 - نهج البلاغة