ثلاثون ألف في وجه الحسين
أخبر مولانا الإمام الحسن المجتبى لأخيه الإمام الحسين وهو على فراش المرض عند اغتياله بالسم القاتل في المرة الرابعة، وبينما رأسه كان في حضن أخيه الحسين، عن يوم شهادته وما سوف يواجه يوم مصرعه الشريف فقال له: لا يوم كيومك يا أبا عبد الله، يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدعون أنهم من أمة جدنا محمد ... "
شهدت معركة الطف في كربلاء المقدسة في عام ستين للهجرة أعظم مواجهة سجلها التاريخ البشري إلى يومنا هذا، بل ولن تتكرر أبدا؛ لأنه لا يوم كيومك يا حسين.
برغم قلة أنصار الإمام الحسين الذي لم يتعدّ رقم السبعين مقاتلا بعد التصفية النهائية، وهم خلاصة الوفاء والإخلاص حتى شهد لهم الإمام المعصوم سبط النبي بأنه لا يعلم أصحاب أوفى منهم إليه على وجه الأرض، وهذه شهادة تزكية خالصة من الإمام المعصوم المفترض الطاعة والمسدد من قبل الله سبحانه وتعالى يسجلها لهؤلاء المقاتلين الأوفياء، مع هذا العدد القليل جدا إلا أن الإمام الحسين تعامل معهم على أنهم جيش نظامي مكتمل ومنظم، حيث تم توزيع مواقعهم العسكرية وفق النظم العسكرية للجيش والحرب وحسب التخطيط والفكر العسكري.
إذ إن كل واحد من هؤلاء الجنود الأبطال كلف بمهمة عسكرية قد أوكلت له من قبل القائد العام للجيش، وكلهم كانوا طوع أمره الشريف، أي في طاعة مولهم وإمامهم الشرعي وقائدهم المسدد من قبل الله سبحانه، حتى أصبحوا عشاق للشهادة رضوان الله عليهم لا ينافسهم ولا يسبقهم فيها أحد، مما أحدث أن قذف في قلوب العدو الرعب وجعلهم يتصورون المقاتل الواحد في جيش الإمام الحسين كألف فارس أو يزيدون، بواسل لا يخشون غير الله سبحانه وتعالى.
هكذا يصنع الإيمان والتوكل على الله سبحانه وحب الحسين في الفرد بأن يجعله يرهب أعداء الله ورسوله، وإن كانوا في مواجهة مليون فارس في العدد والعدة فإنهم لا يرونهم إلا شيئا من الغبار لا قيمة لهم ولا لعددهم؛ لأن قلوبهم قد امتلأت بحب الحسين .
فعندما نقرأ في التاريخ ونقلب أوراقه يمنة ويسرة لا نرى غير هذه الحقيقة التاريخية المؤلمة بأن هناك جريمة كبرى حصلت بين جيشين غير متكافئين من حيث العدد والعدة، بل لا توجد مقارنة بينهما، هذا ما صوره لنا التاريخ. نعم حدثت ولن يحدث مثلها مرة أخرى على هذه البسيطة، حيث إن تصور المعركة العسكرية بين جيش الدولة الأموية وجيش الإمام الحسين لا يحتمله العقل البشري. مهما وصل هذا العقل من العلم والدراية بالعلوم الطبيعية والعسكرية إلا أن التاريخ أكدها وكان شاهدا على هذه المعركة ونقلها لنا بأدق تفاصيلها وأحداثها المرعبة، وبدورنا سلمنا بها دون القدرة على تحمل مشاهدها المؤلمة والفظيعة الذي خرجت عن المألوف وعن النطاق الإنساني والبشري بكل المعايير والمقاييس الإنسانية والبشرية.
سبعون مقاتلا مع قائدهم الإمام الحسين أصبحوا في اليوم العاشر من محرم الحرام في مواجهة سيل من الجنود المقاتلين المجدلة بالسلاح، جيش كبير وضخم ومنظم مكون من ثلاثين ألف جندي مدججين بالسلاح، بل كان مدعوما بما يلزم من دعم لوجستي من قبل الدولة الذي تعد وقتها دولة عظمى، وهي دولة بني أمية التي اتسع حكمها وسيطرتها لقرابة نصف العالم أو يزيد عن ذلك.
وحسب ما يذكره التاريخ بلغت الدولة الأموية ذروة اتساعها في عهد الخليفة العاشر هشام بن عبد الملك، إذ امتدت حدودها من أطراف الصين شرقا حتى جنوب فرنسا غربا، وكذلك تمكنت من فتح أفريقيا والمغرب والأندلس وجنوب الغال والسند وما وراء النهر، واتخذت من دمشق مركزاً وعاصمة لها.
مثل هذه الدولة القوية والكبيرة كانت في مواجهة سبط النبي مع ثلة من أولاده وأصحابه الأوفياء ونساء تتقدمهم عقيلة الطالبين وبطلة كربلاء السيدة زينب مع مجموعة من الأطفال الهاشمين تقودهم السيدة رقية بنت الحسين ذات الخمسة أعوام، كانت حربا ليست كأي حرب ودون التدخل الغيبي فيها، وبعد انقضاء ساعة من الزمن عند اشتباك الجيشين سقط الكثير من القتلة من طرف العدو بقيادة عمر بن سعد الذي عينته الدولة الأموية قائدا للجيش الأموي لمواجهة الإمام الحسين إذ كان حاكم الدولة وقتها هو يزيد بن معاوية، وفي ساعة من نهار شديد الحرارة والذي أخذ مأخذه من العطش والتعب الشديد الذي بان في جيش الإمام الحسين؛ لأن الجيش الأموي بأمر من عمر بن سعد منع وصول جيش الرسالة المحمدية إلى ماء النهر.
استشهد كذلك في هذه الساعة كل من كان مع الإمام الحسين وما بقي من المقاتلين سواه فريداً دون ناصر له ولا معين، في مواجهة هذا الجيش الجرار الكبير المدجج بأنواع الأسلحة الثقيلة والخفيفة وغيرها، وبدون التدخل الغيبي الإلهي وقف الإمام الحسين بكل شجاعة وبسالة وعزيمة متوكلاً على الله في مواجهة هذا الجيش الجرار الظالم، فأخذ الإمام الحسين يسقط فرسانهم الواحد تلو الآخر حتى بان النقص في جيش العدو، فخشي عمر بن سعد من الهزيمة لما يعلمه من بسالة وشجاعة الإمام الحسين في فنون الحرب فضلا عن الشجاعة والقوة البدنية، فأسرع بتغيير الخطة العسكرية، بعدما كانت المواجهة بين كتيبة عسكرية كاملة في مقابل شخص واحد وهو الإمام الحسين تضاعفت المواجهة إلى أربع فرق متنوعة، على أن يكون هجوم هذه الفرق دفعة واحدة ومن كل الجهات وبدون هوادة وبدون التزام بأخلاقيات الحرب.
وبعد صمود قهر به العدو دون أي علامة تدل على الاستسلام أو الخضوع أو التسليم، وبرغم العطش الشديد والجوع والتعب والإرهاق الجسدي والنفسي، وفي جو شديد الحرارة، وفي لحظة تكالب الجيش على الإمام الحسين دفعة واحدة كانت السهام والرماح والطعنات تأتيه من كل صوب كرش المطر فكانت الطعنة فوق الطعنة والضربة فوق الضربة ومن كل صوب واتجاه على جسده الشريف حتى تمزق ذلك الجسد الطاهر وأصبح إربا إربا.
وفي هذه اللحظة الأخيرة التي سقط فها الإمام الحسين من على جواده مخضبا بدمه الشريف متعثرا محتسبا عند ربه ما جرى له ولأسرته وأصحابه، جاه الشمر بن ذي الجوشن وحز رأسه الشريف وفصله عن جسده الطاهر المطهر. وفي هذه اللحظة الأليمة تكشف للأمة وللرأي العام الإسلامي حقيقة الدولة الأموية الدموية وما كانت تخفي على الأمة الإسلامية من جرائم إنسانية ودينية طوال ثمانين عاما منذ تأسيسها، وما كانت تدعيه من أكاذيب مضللة ضد عترة المصطفى وما كانت تخططه لضرب الدين ومحو معالمه الإسلامية.
أصبحت شهادة الإمام الحسين على الدولة الأموية وبالاً وطامة كبرى كوباء أصاب الدولة الأموية لا يمكن معالجته أو تستره؛ لأن الجريمة كانت فظيعة والتستر عليها أصبح خارج السيطرة الإعلامية البشرية، بل كانت جسرا لسقوط هذه الدولة وفضحها أمام التاريخ والعالم للأبد، حيث تفجر الوعي بعدها عند الناس واستيقظوا من سباتهم وغفلتهم ومن السبات الثقافي الأسود الذي كانوا عليه بعد انهيار المخطط الأموي اتجاه العترة الطاهرة طوال هذه السنين العجاف التي حلت على الأمة الإسلامية.
ومن هذه الواقعة الكربلائية التاريخية الإسلامية التي شكلت صدمة في ضمير الأمة وبان فيها الحق من الأباطيل الأموية تكشف للأمة سر هذه النهضة الإلهية الحسينية الذي كان مغيباً عن القريب قبل البعيد من الصحابة وغيرهم لأنها كانت محل بلاء للأمة، وما كان يعلم سرها إلا الله والإمام الحسين وأهل بيته الأطهار وأصحابه الأوفياء حين أطلق على ثورته المباركة الفتح.
وبهذه الصدمة النفسية والعقلية زهق الباطل وانتصر الحق وما كان يتحقق كل هذا النصر الإلهي إلا بهذا القربان وبهذه الصورة الشنيعة من الفداء الذي قدمه أبو عبدالله الحسين للإسلام، وبهذا أعطى الإمام الحسين ربه كل ما يملك وقدم له أفضل قربان يتقرب به إلى خالقه سبحانه وتعالى، وكافأه ربه بأن أعطاه كل شيء وأعطى زواره كل ما يطلبون تحت قبته الشريفة كرامة للحسين وما قدمه للإسلام والشريعة المحمدية، وبعدها أصبح الإسلام محمدي الوجود حسيني البقاء.