وداع من عَزَّ فراقه

شهر دعينا فيه إلى ضيافة الله، ويسر لنا قبول الأعمال، بان صفَّد الشياطين، وفتح صنوف الدعوات والقربات في هذا الشهر، واستقبلناه بخطبة عظيمة للنبي الكريم ، أبان فيها مكانة وقداسة هذا الشهر العظيم.

وها هي أيامه قد انقضت، ولياليه قد تصرمت، والله وحده أعلم بحالنا من كل أحد، وهذه النعم الجسيمة التي منَّ الله علينا بها سواء في استقباله أو في أيامه ولياليه من الأدعية والعبادات، ولا سيما أنه بلغنا تلك الليلة؛ وهي ليلة القدر فمنحنا عطاءه.

ولا ريب أن يكون لوداعه آداب على المؤمن أن يلتفت لها، خصوصاً ونحن مقبلون على وداعه، ومن الملفت أن الحث على وداعه ممتزج بالدموع والآهات واللآلام، كما في الدعاء المروي عن الإمام السجاد في وداعه.

وهي محطة وفرصة كبيرة ومهمة وربما تكون الأخيرة، ولا ندرك الشهر من قابل، إذ ينتاب المؤمنين الحزن والألم لعلمهم بحال الشهر وفراقه، وكأنه توديع لمحب وضيف عزيز يأمل أن لا يفترق معه.

فعليه؛ يجب أن يتمسك المؤمن بآخر اللحظات خصوصاً إذا علم أن الله يعتق في ليلة العيد بعدد ما أعتقه في الشهر الكريم، لينال شرف الفوز والنجاة من أهوال القيامة.

فلابد أن نتحلى بجملة من الآداب وهي:

التوبة الصادقة: فهي الطريق للوصول إلى المقامات؛ عبر ترك الذنوب والاقبال على الله، فلنغتنم الفرصة ونجعل من شهر رمضان نقطة التحول نحو الطاعة والاستقامة.

قيام الليل: ربما قد غفلنا في بعض لياليه عن قيام الليل، وهي الطريق الأسرع للوصول إلى الله، كما يقول العارف السيد القاضي قدس الله سره: من أراد الدنيا فعليه بصلاة الليل، ومن أراد الآخرة فعليه بصلاة الليل، ولا يمكن امتطاء الطريق إلا عبر صلاة الليل.

الانفاق الواجب والمستحب: من المعلوم أن زكاة الفطر هي لسلامة السنة القادمة؛ والإنفاق سواء الواجب أو المستحب يتضاعف في شهر الله، وبها تزيد المكتسبات والأرباح، فلا نبخل بما وهبنا الله ﴿مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ۚ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فأي تجارة أربح من هذه، وأي صفقة أكثر ضمانًا من تلك؟

الدعاء: اذا كان لشهر رمضان خصوصية فالدعاء سمة بارزة فيه، من حيث تعدد أدعيه النهار والسحر وحال الإفطار وغيرها، ومن المعلوم أن الدعاء سلاح المؤمن، بل هو ملاذ العشاق وطرق الخشوع والإستقامة لله، ومن منا لا يحتاج إلى هذا السلاح

لذا على المؤمن أن لا يغفل عن دعاء وداع شهر رمضان المروي عن الإمام السجاد ، والذي يحوي المضامين المؤثرة.

ومن أهم آداب الخروج من ضيافة الله هي المراجعة الذاتية التي يخضع لها الصائم، إذ علينا أن نقف متأملين حال الوداع واللحظات الأخيرة ليتعرف العبد على حقيقة ما ضيعه من أوقات ثمينة ولنسأل أنفسنا ما حققنا من هذه الضيافة؟!

ومن تلك الأساليب الواردة في سيرة أهل البيت الحث على الدعاء المتضمن للأيام الأخيرة للشهر الكريم كما ورد عن جابر بن عبد الله الانصاري انه قال: دَخَلتُ عَلى رَسولِ اللّه ِ «صلى‌ الله ‌علىه ‌و‌آله‌ وسلّم» في آخِرِ جُمُعَةٍ مِن شَهرِ رَمَضانَ، فَلَمّا بَصُرَ بي، قالَ لي: «يا جابِرُ، هذا آخِرُ جُمُعَةٍ مِن شَهرِ رَمَضانَ، فَوَدِّعهُ وقُل: اللّهُمَّ لا تَجعَلهُ آخِرَ العَهدِ مِن صِيامِنا إيّاهُ، فَإِن جَعَلتَهُ فَاجعَلني مَرحوماً، ولا تَجعَلني مَحروماً. فَإِنَّهُ مَن قالَ ذلِكَ ظَفِرَ بِإِحدَى الحُسنَيَينِ، إمّا بِبُلوغِ شَهرِ رَمَضانَ مِن قابِلٍ، وإمّا بِغُفرانِ اللّه ِ ورَحمَتِهِ

وختاما مع السيرة العملية للإمام السجاد عبر الرواية المروية عن الإمام الصادق صلوات الله وسلامه عليه لنستلهم منها الدروس والعبر.

كانَ عَليُّ بنُ الحُسَينِ «عليه‌ السّلام» إذا دَخَلَ شَهرُ رَمَضانَ لا يَضرِبُ عَبداً لَهُ ولا أمَةً، وكانَ إذا أذنَبَ العَبدُ وَالأَمَةُ يَكتُبُ عِندَهُ أذنَبَ فُلانٌ، أذنَبَت فُلانَةُ يَومَ كَذا وكَذا، ولَم يُعاقِبهُ فَيَجتَمِعُ عَلَيهِمُ الأَدَبُ، حَتّى إذا كانَ آخِرُ لَيلَةٍ مِن شَهرِ رَمَضانَ دَعاهُم وجَمَعَهُم حَولَهُ، ثُمَّ أظهَرَ الكِتابَ ثُمَّ قَالَ: «يا فُلانُ، فَعَلتَ كَذا وكَذا ولَم اُؤَدِّبكَ أتَذكُرُ ذلِكَ؟» فَيَقولُ: بَلى، يَابنَ رَسولِ اللّه ِ، حَتّى يَأتِيَ عَلى آخِرِهِم ويُقَرِّرَهُم جَميعا. ثُمَّ يَقومُ وَسَطَهُم ويَقولُ لَهُم: «اِرفَعوا أصواتَكُم وقولوا: يا عَلِيَّ بنَ الحُسَينِ، إنَّ رَبَّكَ قَد أحصى عَلَيكَ كُلَّ ما عَمِلتَ، كَما أحصَيتَ عَلَينا كُلَّ ما عَمِلنا، وَلَدَيهِ كِتابٌ يَنطِقُ عَلَيكَ بِالحَقِّ، لا يُغادِرُ صَغيرَةً ولا كَبيرَةً مِمّا أتَيتَ إلاّ أحصاها، وتَجِدُ كُلَّ ما عَمِلتَ لَدَيهِ حاضِرا، كَما وَجَدنا كُلَّ ما عَمِلنا لَدَيك حاضِرا، فَاعفُ وَاصفَح كَما تَرجو مِنَ المَليكِ العَفوَ، وكَما تُحِبُّ أن يَعفُوَ المَليكُ عَنكَ، فَاعفُ عَنّا تَجِدهُ عَفُوّا، وبِكَ رَحيما، ولَكَ غَفورا، ولا يَظلِمُ رَبُّك أحَدا، كَما لَدَيكَ كِتابٌ يَنطِقُ عَلَينا بِالحَقِّ، لا يُغادِرُ صَغيرَةً ولا كَبيرَةً مِمّا أتَيناها إلاّ أحصاها. فَاذكُر يا عَلِيَّ بنَ الحُسَينِ، ذُلَّ مَقامِكَ بَينَ يَدَي رَبِّكَ الحَكَمِ العَدلِ الَّذي لا يَظلِمُ مِثقالَ حَبَّةٍ مِن خَردَلٍ، ويَأتي بِها يَومَ القِيامَةِ، وكَفى بِاللّه ِ حَسيبا وشَهيدا، فَاعفُ وَاصفَح يَعفو عَنكَ المَليكُ ويَصفَحُ؛ فَإِنَّهُ يَقولُ: «وَ لْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ» قالَ: وهُوَ يُنادي بِذلِكَ عَلى نَفسِهِ ويُلَقِّنُهُم، وهُم يُنادون مَعَهُ، وهُوَ واقِفٌ بَينَهُم يَبكي ويَنوحُ، ويَقولُ: «رَبِّ إنَّكَ أمَرتَنا أن نَعفُوَ عَمَّن ظَلَمَنا، فَقَد ظَلَمنا أنفُسَنا، فَنَحنُ قَد عَفَونا عَمَّن ظَلَمَنا كَما أمَرتَ، فَاعفُ عَنّا فَإِنَّكَ أولى بِذلِكَ مِنّا ومِنَ المَأمورينَ، وأَمَرتَنا أن لا نَرُدَّ سائِلاً عَن أبوابِنا، وقَد أتَيناكَ سُؤّالاً ومَساكينَ، وقَد أنَخنا بِفِنائِكَ وبِبابِكَ، نَطلُبُ نائِلَكَ ومَعروفَكَ وعَطاءَكَ، فَامنُن بِذلِكَ عَلَينا، ولا تُخَيِّبنا فَإِنَّكَ أولى بِذلِكَ مِنّا ومِنَ المَأمورينَ. إلهي كَرُمتَ فَأَكرِمني؛ إذ كُنتُ مِن سُؤّالِكَ، وجُدتَ بِالمَعروفِ فَاخلِطني بِأَهلِ نَوالِكَ يا كَريمُ». ثُمُّ يُقبِلُ عَلَيهِم ويَقولُ: «قَد عَفَوتُ عَنكُم، فَهَل عَفَوتُم عَنّي ومِمّا كانَ مِنّي إلَيكُم مِن سوءِ مَلَكَةٍ؟ فَإِنّي مَليكُ سوءٍ، لَئِيمٌ ظالِمٌ، مَملوكٌ لِمَليكٍ كَريمٍ جَوادٍ عادِلٍ مُحسِنٍ مُتَفَضِّلٍ»، فَيَقولونَ: قَد عَفَونا عَنكَ يا سَيِّدَنا وما أسَأتَ! فَيَقولُ لَهُم: «قولوا: اللّهُمَّ اعفُ عَن عَلِيِّ بنِ الحُسَينِ كَما عَفا عَنّا، وأعتِقهُ مِنَ النّارِ كَما أعتَقَ رِقابَنا مِنَ الرِّقِّ»، فَيَقولونَ ذلِكَ، فَيَقولُ: «اللّهُمَّ آمينَ يا رَبَّ العالَمين، اِذهَبوا فَقَد عَفَوتُ عَنكُم، وأعتَقتُ رِقابَكُم رَجاءً لِلعَفوِ عَنّي وعِتقِ رَقَبَتي»، فَيُعتِقُهُم. فَإِذا كانَ يَومُ الفِطرِ أجازَهُم بِجَوائِزَ تَصونُهُم وتُغنيهِم عَمّا في أيدِي النّاسِ».