صداقة الكتب بلا مصالح

حينما يلتقط أحدنا كتابًا، ويمسكه بلطف، ويمسح عليه بكفه مِسحة المحب، ثم يبدأ بتصفحه وقراءته مقلّبًا صفحاته صفحة صفحة، حريصًا على سلامة أوراقه من أي أذى، ويقضي في ذلك ساعات كل يوم، يفعل هذا كل يوم طاويًا منه صفحة وراء صفحة وفصلًا بعد فصل حتى يصل إلى نهايته، وفي المقابل يجود الكتاب بما لديه من معلومات وأفكار ورؤى مفيدة وممتعة أو محزنة، لا يمل منّا ولا يمُنّ علينا بل يعطي بلا حدود؛ فإن ذلك هو بالضبط تعريف الصداقة.

فالصداقة هي بالتعريف علاقة متينة بين شخصين أو أكثر يهتم كل منهم بالآخر، وتقوم على الثقة المتبادلة والاحترام، متشاركين الأنشطة والتجارب. وهو ما يحصل بين القارئ والكتاب مع فارق واحد وهو أن أحد الطرفين هنا «وهو الكتاب» هو جماد.

ويعد البعض صداقة الإنسان مع الكتاب صداقة بلا مصالح؛ فالكتب تعطي ولا تنتظر من القارئ شيئًا. وهو إن أعطاها الاهتمام والعناية كان بها، وإن لم يعطها، بل حتى لو أهانها ومزّقها، فهي لا تنفر ولا تسخط عليه. فهي تعطي بسخاء وصمت، حتى إن فرايهرفون مونشاهاوزن قال عنها: صداقة الكتب أفضل من صداقة الناس، فهي لا تتكلم إلا عندما نريد نحن، وتسكت عندما نكون مشغولين. إنها تعطي دائماً ولا تطلب أبداً.

وممن تحدثوا عن صداقة الكتاب الجاحظ، الذي قال: الكتابُ هو الجليس الذي لا يُطريك، والصديق الذي لا يُغْريك، والرفيق الذي لا يَمَلُّك،.. والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالمَلَق، ولا يعاملك بالمَكْر، ولا يَخْدعك بالنّفاق...

والمتنبي حين قال:

أَعَزُّ مَكَانٍ في الدُّنَى سَرْجُ سَابِحٍ *** وَخَيْرُ جَلِيْسٍ في الزَّمانِ كتابُ

وأخيرًا قال عنها الكاتب مارسيل بروست: الصداقة مع الكتاب على الأقل صادقة، ولو كنا نربطها مع شخوص خياليين، وكتّاب راحلين أو غائبين، الشيء الذي يمنح هذه الصداقة بعدًا مؤثرًا وخاليًا من المصالح «كتاب عن القراءة».

*الكتاب هو المكان الوحيد في العالم الذي يمكن أن يلتقي فيه غريبان بحميمية كاملة. مي زيادة