في تجديد الفكر الديني «4»
تجديد المعرفة الدينية قد يكون هو المقصود أحيانا من دعوة البعض لتجديد الفكر الديني. وينطلق هذا الفريق أو بعضه من مقولة أساسية مضمونها الترابط الوثيق بين ما يسمى بالمعارف «خارج دينية» بالمعرفة الدينية. فالمعارف خارج دينية كالعلوم الطبيعية والعقلية والإنسانية واللسانية وغيرها تؤثر من وجهة نظرهم في إنتاج المعرفة الدينية، من خلال إعادة فهم النص الديني وفق المعطيات المعرفية الجديدة.
قد يبدو هذا الكلام لا غبار عليه من حيث المبدأ، ولكن بعض القائلين به كالدكتور عبد الكريم سروش ذهب فيه إلى أبعد مدى في كتابه «القبض والبسط في الشريعة» والذي نقلته للعربية د. دلال عباس. يقول في ص73 من الكتاب: إذا تعرضت المعارف البشرية غير الدينية للقبض والبسط، فلا بد أن يتعرض فهمنا للشريعة إلى القبض والبسط أيضا، أحيانا بصورة خفية، وأحيانا بصورة شديدة وقوية". فهو يرى أن أي تحول في المعارف الخارج دينية، أيا كان وفي أي مجال، سيُحدث دون أدنى شك تحولا ما في فهم الشريعة.
فهناك بحسب سروش ارتباط كلي بين المعارف البشرية كلها، ومن ضمنها المعرفة الدينية. فإذا تم اكتشاف شيء جديد في الهندسة مثلا، فإنه لا بد أن يؤثر على فهم الشريعة ويؤدي إلى تغيير ولو خفي في المعرفة الدينية. وحين نضيف لذلك ما يراه أيضا من كون المعارف البشرية في حالة تغير دائم، فإن النتيجة الطبيعية أن تكون المعرفة الدينية هي الأخرى متغيرة غير ثابتة. ولأنها أي المعرفة الدينية من وجهة نظره مستهلكة تتغذى على المعارف الأخرى، فإنه يوصي العلماء والفقهاء بضرورة الاطلاع على كافة المعارف البشرية ليكون فهمهم للدين أفضل وأكثر عصرية.
إننا لا يمكن أن نقبل بهذا الادعاء على إطلاقه ولوازمه السيالة، فدون إثباته خرط القتاد كما يقولون. إن مؤدى نظرية القبض والبسط، بل أهم موضوع تتصدى له كما يقول أحد أبرز نقادها، الشيخ صادق لاريجاني، في كتابه «المعرفة الدينية في نقد نظرية د. سروش - ترجمة د. الشيخ محمد شقير» هو « نسبية فهم المتون الدينية، النسبية الكلية والشاملة، فكل فهم يتحول، وليس لدينا أي فهم ثابت. وليس لدينا أي فهم قطعي ويمكن الاعتماد عليه ولا يقبل النقد».
لست هنا بصدد مناقشة نظرية القبض والبسط التي بسط فيها الشيخ لاريجاني الكلام في كتابه المذكور، وخلُص فيه إلى النتائج الثلاث التالية التي تقابل كل منها ركناً من أركان نظرية القبض والبسط الثلاثة «التوصيف، التبيين، التوصية»:
1 - إن تحول المعارف الدينية ليس شاملا ومطلقا فبعض المعارف الدينية يبقى ثابتا؛ وهذه واقعية تاريخية يمكن الحصول عليها من خلال الرجوع لتاريخ الفكر التفسيري والفقهي وغيره.
2 - إن سر تحول بعض المعارف التي تحولت ليس كون كل المعارف مرتبطة مع بعضها بشكل مطلق، بل سر هذا التحول أحد أمرين:
أ» ارتباط بعض المعارف الداخلدينية ببعض المعارف الخارجدينية.
ب» الجهود والمساعي والتدقيقات الداخلدينية.
3 - إن التوصية المعقولة لعلماء الدين على أساس المسألة الثانية هي أنه أولا: أن يجهدوا لمعرفة أي المعارف الداخلدينية يرتبط بالمعارف الخارجدينية، وما هو هذا الارتباط، وأن يشخصوا أن هذا الارتباط هل هو صحيح ومبرر لانتقال التحولات الخارجية أم لا؟
ثانيا: أن يزيدوا من جهودهم ومساعيهم وتدقيقاتهم داخل المعرفة الدينية.
إذن نحن لا ننكر وجود الارتباط بين بعض المعارف الخارج دينية والمعرفة الدينية، أما الارتباط المطلق فهو ما لا يمكن الالتزام به. السيد محمد باقر الصدر في كتابه «الأسس المنطقية للاستقراء» استفاد من نظرية الاحتمال، وهي معرفة خارج دينية تعتمد على الرياضيات والإحصاء، في مباحث العلم الإجمالي في أصول الفقه، وفي بعض المباحث العقائدية. ومثل ذلك ربما يُتصور أن يحدث مستقبلا في علم الحديث على فرض إمكانية استخدام علم البلاغة الحديثة المعروف بالأسلوبية أو الدراسات اللسانية كالسيميائية والتداولية في اكتشاف علامات الاعتبار الداخلية في نص من النصوص، أو على الأقل في تراكم الظنون حول ذلك.
السيد الخوئي مثلا في «مصباح الفقاهة» يقول عن عهد الإمام علي لمالك الأشتر: «والعهد وإن نقل مرسلا إلا أن آثار الصدق منه لائحة، كما لا يخفى للناظر إليه». يقصد أنه مرسل في نهج البلاغة، وإلا فإنه مسند كما ذكر في معجم رجال الحديث. نقول: هذه الآثار التي بدت له من خلال معايشته للنصوص الدينية يمكن أن يتم تقعيدها في المستقبل ووضعها في إطار علمي محكم