زيارة الأربعين.. بين العبادة والتغيير
تُعد زيارة الأربعين المتعلقة بمولانا أبي عبدالله الإمام الحسين واحدة من أهم الشعائر الدينية عند الطائفة الشيعة الإمامية، بل تعد واحدة من مفاخر شعائرها الدينية، إذ شكلت هذه الشعيرة العبادية والروحية معلمًا إسلاميًّا عالميًّا يترقبه العالم الإنساني والإعلامي كل عام، ويصل عدد الزوار هذه المناسبة الشريفة إلى أرقام مليونية من المسلمين وغير المسلمين، وهو ما يعبر عنه البعض بالحج الأعظم حسب وصف الصحيفة البريطانية الإندبندنت، أو تجديد العهد بنصرة الحسين حسب وصف الخطباء.
ولم يشهد الإسلام منذ بزوغ أنواره الشريفة في شبه الجزيرة العربية على يد خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد بن عبدالله حشدًا إسلاميًّا بهذه الأعداد البركانية من البشر، وبهذا الطوفان البشري إلا في مناسبة أربعينية حفيده الإمام الحسين .
وشكلت شهادة أبي عبدالله الحسين مشروعًا نهضويًّا توعويًّا أيقظ به ضمير الأمة الإسلامية، بل ضمير العالم كله، ومناسبة الأربعين هي المحطة الروحية التي يتزود منها أحرار العالم من الروح الحسينية الخالدة في الإرادة والصمود، ليجدِّد فيهم روح الأمل لمستقبل مشع بضياء العزة والكرامة، ويمدهم بروح العزيمة لمواجهة كل التحديات والصعوبات القاهرة والمختلفة لمواجهة أعداء الإنسانية.
وهي مناسبة دينية عظيمة يحتفي بها المسلمون الشيعة خاصة، ويشاركهم فيها بقية المذاهب الإسلامية وغير الإسلامية، باعتبار أن النهضة الحسينية شكَّلت حركة إصلاحية إنسانية عامة وشاملة، في مواجهة ومحاربة الظلم والاستبداد والفساد والاضطهاد، وهذه العناوين العدوانية وأمثالها هي مصدر قهر للإنسانية، ويلفظها عموم البشر، ومواقفهم منها الحزم ضد هذه الثقافة الاستعبادية والبغيضة؛ لهذا ترى وجهة وقبلة كل أحرار العالم في يوم الأربعين هو قبر الإمام الحسين؛ لأن الإمام يشكِّل لهم رمزية العدالة والحرية والكرامة الإنسانية، والصرخة المدوية والصادقة في وجه كل الظلاميين والمستبدين إلى يوم الدين، فصرختك في هذا اليوم: ”لبيك يا حسين“، هي انتفاضة تضامنية مع الدعوة الإصلاحية الحسينية، التي أعلن عنها إمامنا منذ ألف وأربع مئة عام، وقام وانتفض وحارب وقُتل لأجلها، ليكون الحسين الشعلة التي تضيء طريق العدالة إلى الأبد.
وفي العشرين من شهر صفر عندما بدأ الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري رضوان الله تعالى عليه، أول زيارة للأربعينية الإمام الحسين في عام 61 للهجرة بمعية تلميذه الوفي عطية الكوفي، وبعد تهيئتهم نفسيًّا وجسديًّا للزيارة طلب جابر من عطية أن يضع يديه الكريمتين على تراب قبر المولى أبي عبدالله الحسين، إذ أصبح جابر حينها كفيف البصر، ثم صرخ ثلاثة مرات: ”يا حسين“، وعندها أغشي عليه من شدة الحسرة والألم بعدما تذكر المصائب التي جرت وحلت على سبط نبي هذه الأمة وعلى بيته الأطهار وعلى أصحابه الأوفياء بما صنع بهم أعداء الإسلام وأعداء نبي الله المصطفى من قبل دولة بني أمية المتمثلة بطاغية زمانه يزيد بن معاوية، فصرخة جابر: ”يا حسين“ حتى كادت روحه تخرجه منه، هي تعبير عن الحسرة؛ إذ لم يكن ضمن هذا الفتح المبين، وكذلك لتضامنه مع الإمام الحسين لنصر الحق والعدالة ضد الظلم الذي يمثله يزيد.
الأربعينية الحسينية المباركة تعني أنها قد مضى على شهادة أبي عبدالله الحسين أربعون يومًا، وفي فجر يوم الأربعين وبعد الزحف المليوني والحشود البشرية التي جاءت من كل فج عميق، وفي بقعة جغرافية صغيرة قد لا يستوعبها العقل الطبيعي حين رؤية تلك الأعداد الهائلة التي احتضنت هؤلاء الزوار، فيأتي السؤال المحير للعقل والمنطق والذي يكشف من ورائه أسرارًا كونية لا يريد أعداء العدالة الإنسانية كشفها للناس حتى لا يفضح أمرهم ويذهب ملكهم وجاههم ومكانتهم باعتبارهم الممثلين لخط يزيد، حيث وعملهم الدؤوب هو تغييب الإعلام عن هذه المناسبة الكبرى، حينئذٍ يكون السؤال: كيف لهذا العدد المليوني ولهذه المساحة البسيطة أن تضم هذه الكتل البشرية المتراصة بعضها ببعض وهي تنعم بالراحة والأمان والخير؟ ويشعر الزائر أنها لحظات ليست من الدنيا، بل هي لحظات وساعات في جنان النعيم.
والمفارقة العجيبة في يوم الأربعين ترى هذه الكتلة البشرية تسير وبشكل منظم ومنسق يعجز عن عمله دول متحضرة عظيمة بجميع إمكانياتها الحديثة، وكأنهم فلك من أفلاك السماء يسبح بدقة متناهية ونظام دقيق، وهذا مما لا شك فيه يعد واحدة من كرامات الإمام الحسين .
وفي هذه الشعيرة الحسينية المباركة يتحول الناس إلى غير الناس، وإنْ وصفتُهم بأنهم أصبحوا ملائكة فإني لا أبالغ في ذلك، والشواهد على ما أدعيه لهي كثيرة وكثيرة، وليس لها تحليل عقلي ومنطقي غير أنها أيضًا كرامة ربانية من الله تعالى إلى زوار الحسين ، ولا ينبغي لنا أن نتعجب من أمر وإرادة الله، لأن الإمام الحسين أعطى ربه كل شيء فأعطاه الله كل شيء.
ولم تحظَ أية مناسبة إسلامية بأهمية كما حظيت به أربعينية الإمام الحسين في نفوس زواره، حتى فريضة الحج الذي تعد فريضة إسلامية على عموم المسلمين وذكرها في القرآن الكريم وأكَّد على أهميتها وقدسيتها وضرورة أدائها، بل أوجبها الشرع المقدس على كل مسلم ومسلمة ولو في العمرة مرة لمن استطاع إليه سبيلًا، وبالرغم من ذلك لم تصنع هذه الشعيرة الإسلامية تغييرًا جذريًّا في أعماق نفوس الحجاج أثناء أداء هذه الشعيرة العظيمة بقدر ما تفعله زيارة الأربعين.
وكثيرًا ما يراود أذهان الزوار هذا التساؤل في كل موسم لهذه الشعيرة: كيف يتم استثمار زيارة الأربعين في أنفسنا وفي غيرنا؟ فإنها تصنع المعجزات والمفاجآت والصدمات في الوقت نفسه، ويكاد يتخيل الزائر أنه يعيش على كوكب مختلف عمن كان يعيش عليه، فبمجرد أن تطأ قدماه أرض كربلاء المقدسة، تهبط عليه الكرامات الأخلاقية والإيمانية والمشاعر الإنسانية من كل صوب وجانب، كسمة الإيثار وحسن الأخلاق والكرم والنشاط العبادي والخشوع والحب…، مشاعر قد لا يلامس الزائر مثلها من قبل، ولا مع أقرب المقربين له، أن يعيش بمثل هذه المشاعر القلبية الصادقة طوال حياته، وكأن أرض كربلاء ليست قطعة من هذه الأرض.
موسم الأربعين يصنع هذا وأكثر من تعزيز تلك القيم الإسلامية والأخلاقية والإنسانية؛، لهذا ينبغي أن تكون زيارة الأربعين استثمارًا روحيًّا وأخلاقيًّا دائمًا في نفس كل زائر، وتجارة أبدية مع الله، وليس في موسم الأربعين فحسب، بل ينبغي أن تكون زيارة الأربعين نقطة التحول والانطلاق والتزود من محطتها الروحية وطاقتها المعنوية التي تقوم بغسل الروح والجسد من كل الأحقاد والكراهية والبغضاء والموبقات السيئة، بل من كل الصفات الرذيلة والذميمة، إذ لابد أن تكون زيارة الأربعين قد منحت الزائر ولادة جديدة وحياة مختلفة عما كان عليها، إذ من المتوقع أن تصنع هذه الزيارة من الزائر ناصرًا آخر لتلك القيم الإلهية الحسينية.
وحين يحمل الزائر بين جنبيه قيم الحسين ومبادئه، ويتحول تفكيره وأقواله وأفعاله كلها حسينية، ولا يكتفي بذلك بل ينطلق لتبليغها إلى أوسع بقعة في هذا الكون، وكأن زيارة الأربعين عينته أن يكون سفيرًا للحسين.
ورد في الحديث الشريف عن أبي عبدالله في فضل زيارة الإمام الحسين مشيًا: ”من أتى قبر الحسين ماشيًا كتب الله له بكل خطوة ألف حسنة، ومحا عنه ألف سيئة، ورفع له ألف درجة“. ﴿كامل الزيارات ص 255﴾.
وها هي قوافل الإمام الحسين تنطلق بكل الوسائل مشيًا وركوبًا، فمن هَمُّوا بالصعود في هذه السفينة الحسينية أو من يلحق بها، لا ينسانا من الدعاء والزيارة ويشركنا معه في الثواب. حفظ الله زوار الإمام الحسين من كل الأسواء.
السَّلام عَلَيْكَ يَا أبا عَبْدِ اللهِ وَعلَى الأرواحِ الّتي حَلَّتْ بِفِنائِكَ، وَأنَاخَت برَحْلِك، عَلَيْكًم مِنِّي سَلامُ اللهِ أبَدًا مَا بَقِيتُ وَبَقِيَ الليْلُ وَالنَّهارُ.