النشأة وآثارها على الفرد والمجتمع
كثيرًا ما تنبري عند بعضهم علامات التعجب والإعجاب عن بعض الشخصيات الاجتماعية بمختلف طبقتها ومستوياتها، فيضعك هذا الاهتمام والإعجاب بهذه الشخصيات الرائعة والجميلة ما يجعلك تذوب في التفكير والإعجاب فيها، بحيث تأخذ منك مساحة هائلة من الوقت في التأمل والتفكير فيها وفي أبعادها التربوية والأخلاقية والإنسانية في سبيل استكشاف وسبر أغوار هذه الشخصية الجميلة والمميزة التي شكلت لها غطاء سحريًّا وجاذبًا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، ولا أبالغ في ذلك أن وصمتها بالشخصية الملائكية.
وهذا الإعجاب والانجذاب حول مثل هذه الشخصية ليس لأنها ترتدي أجمل وأرقى الثياب وأغلى أنوع الحلي، وإنما يتمثل في عظمة أخلاقها وتعاملها الإنساني الراقي والرفيع مع الآخرين.
والأعجب من ذلك؛ إذا كان هذا الخلق العظيم التي تتسم به هذه الشخصية هو عنوانها وهويتها التي تتعايش به مع كل أنواع البشر من دون تمييز بين شخص وآخر، فهي لا تفرق بين شخصية غنية لها برستيج معين أو اعتبار مختلف عن شخصية أدنى منها. كلهم بالنسبة لها في نظرها سواء في الإنسانية، بحيث تجد هذه الصفة الحميدة والنبيلة والإنسانية متجسدة في أعماق روحها الملائكية بكل أبعادها وجوانبها الإنسانية، بل اتسمت بقوة التأثير فيما يدور في فلكها الشخصي والاجتماعي من الاحترام والتوقير في نفوس الخلق.
في مقابل هذه الشخصية الجميلة والرائعة والمحترمة والمحبوبة والجامعة للصفات الحسنة والمتمتعة بروح الإنسانية السوية والفارضة احترامها على الجميع، نجد هناك في الطرف الآخر شخصية أخرى عكسها تمامًا، إذ إنها محملة بثقل من «العفانة» الأخلاقية وسوء الخلق في كل جوانبها الإنسانية والحياتية والفكرية، بل اتسمت حياتها الشخصية على قدر كبير من التنفير وسوء العشرة وتجنب التعامل معها على كل مستوى وصعيد.
ومن صفات هذه الشخصية النتنة والبغيضة سوء خُلقها، نحو اتصافها بالنظرة الفوقية والتكبر والبخل وعدم التسامح وازدراء الآخرين بكل عنجهية وغرور وروح اللامبالاة والتعالي على الآخرين من تجريح وما شابه ذلك. المهم عندها إرضاء الذات الأنانية والقبيحة.
وقد يجعلك هذا النوع من الشخصيات الاجتماعية السيئة في حيرة من الأمر والتأمل والاستنكار: أهذا مخلوق بشري أم هو شيطان على صورة بشر؟! بل والأعجب أنها لا تدع لك الفرصة في الخيار، أن تضعها في منطقة الحياد أو البراءة؛ بسبب سوء تعاملها وطريقة تفكيرها السيئ مع الآخرين، إذ إنك لا تستطيع تصنيفها إلا بأنها الشخصية المتمردة أو المريضة أو المعوقة أخلاقيًّا والمعدومة إنسانيًّا.
وهنا يتبادر إلى أذهاننا السؤال المهم عن كلتا الشخصيتين، إذ كيف بلغت الشخصية الأولى علو الدرجات الإنسانية والأخلاقية وصنعت لها صورة حسنة وجميلة ومحببة في أعماق قلوب الناس، في مقابل الشخصية الأخرى في صورتها السيئة والقبيحة وبلوغها أدنى مستوى الانحطاط والقبح والتخلف؟
عند تحليل هاتين الشخصيتين سنكتشف مصدر تكوين صناعتهما؛ إنها النشأة والبيئة التي تعدُّ الحاضنة والمنطلق الأول في تأسيس لكل منهما.
النشأة هي المؤثرة والصانعة وهي المنظومة الفكرية والروحية والثقافية، بل هي القيم والمبادئ والعادات والأعراف، وهي من تخلق مؤثراتها الفكرية والنفسية والأخلاقية والسلوكية في نمط حياة الإنسان، فالنشأة هي مصنع التربية والبانية لقواعد التربية وأساس نوعية الشخصيات؛ سواء أكان الناتج صالحًا أم طالحًا، وهذا ما أثبتته الدراسات والأبحاث في علم الاجتماع والنفس في تأثير النشأة على شخصية الإنسان.
قد ترى شخصية نمت وعاشت وترعرعت في وسط بيئة تتسم بصفات دينية وأخلاقية وعلمية تدعو لقيم ومبادئ الطهر والجود وحسن الخلق والعطاء والإيثار وإلى آخر هذه الصفات الحسنة والحميدة؛ فهنا من الطبيعي ستنتج هذه الحاضنة النظيفة والصالحة التي تحمل روح الفطرة الإنسانية، وستنجذب لها وتتأثر بهذه الأجواء الروحية والإنسانية والدينية والأخلاقية التي تحيط بها من كل جانب، وهذا التأثير سوف ينعكس أثره بشكل طبيعي عليها إيجابيًّا، وعلى بعدها الإنساني والاجتماعي.
في مقابل ذلك نشأة الشخصية في بيئة معاكسة للبيئة للأولى، أي عندما نجد شخصية ترعرعت ونمت ونشأت في أجواء ملوثة بروح الكراهية والعدوانية والأنانية والبخل وحب الذات وما شابه ذلك من تلك الصفات الرديئة وغير الإنسانية؛ فمن الطبيعي سوف تتأثر بهذه المنظومة القذرة والملوثة بهذه المؤثرات غير الأخلاقية والبائسة، وهذا بدوره سوف يبلور ويكوِّن النوع من الشخصيات السيئة والسلبية، وسوف يكون إيقاعها الشيء مخيمًا عليها وعلى من يحيط بها من أسرة ومجتمع، بل سوف تكون كيانًا مدمرًا أخلاقيًّا وإنسانيًّا على الصعيد الشخصي والاجتماعي.
وهذا النوع السيئ من الشخصيات الاجتماعية سوف يشكل عبئًا على المجتمع بشكل وسلبي وخافق؛ ما يستدعي تكلفة عالية في إعادة تأهيلها وإصلاحها، وقد يوفق في إصلاحه وقد يخفق في حالة تعمقت هذه المؤثرات السلبية والتربوية الفاسدة في أعماق وروح هذه الشخصية، واستقرت فيها بوصفه جزءًا من أعضاء الجسد.
إذن النشأة هي اللبنة والمدرسة الأولى الذي ينشأ عليها الإنسان، وهي الحاضنة الأساسية في تكوين وصناعة الإنسان، بل هي الماكينة التي تدير هذه الشخصية عبر منظومتها الفكرية ومخزونها الفكري والتربوي، وعبر عملية الاكتساب والتعليم والمعرفة، إذ يكتسب ويتعلم كل ذلك من منظومة هذه النشأة أو البيئة.
ولهذا حظيت التربية الإسلامية باهتمام بالغ في اختيار نشأة وتربية الفرد المسلم على أعلى معايير التربية الإنسانية حتى قبل تكوين نطفته في رحم أمه، إذ وردت أحاديث شريفة وعديدة عن رسول الله المصطفى والأئمة الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين، لتأتي عملية الاختيار الحاضنة الأفضل لكلا الجانبين «الزوج أو الزوجة» لإيجاد بيئة أبوية صالحة تتمثل فيها القدوة والنموذج الأمثل في الخلق الإنساني وعلى كل صعيد ومستوى في المعاملات الإنسانية والحياتية.
ولهذا ينبغي أن يحرص كل فرد في المجتمع وتحت أي ظرف اجتماعي أن يهتم بأجود معايير ووسائل التربية، والبحث عن أفضل بيئة يتربى فيها الفرد؛ على أن تكون بيئة صالحة ونقية تتوافق مع مفهوم الفطرة الإنسانية التي خلقها الله سبحانه وتعالى عليها الإنسان.
وهذا الأمر يعدُّ تكليفًا دينيًّا واجتماعيًّا أيضًا، بل هو أهم وأبرز حقوق الإنسان حتى قبل خلق نطفته في رحم أمه، ويظل استمرارية هذا النهج الحقوقي في التطور بكل أبعاده إلى حين ظهوره على الدنيا وإلى أن يختار الله أمانته تظل حقوقه قائمة ومستمرة.
بل تشدد النشأة الإسلامية في نشأة أبنائها ليس في البيئة الصالحة والطاهرة فحسب، بل على انتقاء ما هو الأفضل والأجود في أنواع وطرق وسائل التربية الأخلاقية والتعليمية الأحدث فالأحدث، عبر مفاهيم منظومتها الفكرية والأخلاقية والعلمية والدينية، وهذا كله لأجل صناعة شخصية اجتماعية نموذجية في كل جوانبها وزواياها الفكرية والسلوكية لتقود المجتمع للإصلاح والتطوير والأعمار.
والنشأة هي الأصل في بلورة شخصية الفرد؛ فإن النشأة الصالحة تنتج أبناء صالحين ونافعين لأنفسهم ومجتمعهم ووطنهم، والنشأة الطالحة تنتج أبناء طالحين وفاسدين وضارين لأنفسهم ومجتمعهم ووطنهم.
وكما ورد في الحديث الشريف: ”كلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِه، والأمير راعٍ، والرجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولدِه، فكلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤول عن رعيَّتِه“.