بين المصالح والمفاسد

ربما تغيب عن بال المتحاورين، في ظل الحوارات الصاخبة والمتشنجة، المعايير الإنسانية والأخلاقية والدينية التي تدعو إلى التعبير عن الرأي وممارسته بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، وبطريقة تتسم بالحلم والصفح والعفو، بعيداً عن لغة العنف، وعنف الكلمة، كون هذه القيم من ضرورات التضامن والتلاقي والتراحم والتوافق والتعاون على البر والتقوى، والانسجام بين أبناء أي مجتمع ومكوناته، وحفظ نظامه العام.

غير أن هناك من لا يضع هذه القيم في الاعتبار حين التحدث والتكلم، أو حين الكتابة، ولا يكترث بها أثناء التحاور والنقاش. فربما لا يكون مدركاً للمصالح والمفاسد في إطار الأهداف المرجوة من أي حوار، وما يترتب عليه من نتائج. فقد تؤدي الحوارات المنفعلة والمتشنجة إلى نتائج مدمرة، ليس فقط على المتحاورين، بل وعلى المجتمع الذي يعيشون فيه، حيث إمكانية أن تنعكس سلباً على الواقع المعاش، وتتسبب في فساد العلاقات الإنسانية بين الناس، وتضر بالعلاقة بين المكونات الاجتماعية، وتضعف حالة التعايش بينهم، وتخل بالقيم الأخلاقية والآداب العامة، وتربك النظام العام، وتضر بالأمن الاجتماعي.

يضاف إلى ذلك بأن للحوار أخلاقيات ينبغي الالتزام بها كي تكون العملية الحوارية ناجحة وبناءة مع الآخرين. لذا فآداب الحوار تقتضي تجنب كل ما لا علاقة له بالموضوع محل البحث، أو الكلام في الأشخاص واتهامهم، والبحث عن مثالبهم الشخصية. إلا أن ما يحدث من سُباب في بعض البرامج الحوارية، أو المجالس النيابية، أو على منصات التواصل الاجتماعي، لا يمت لتلك الأخلاقيات بصلة، على الرغم من أن سقف التعبير ضمن بعض هذه الفضاءات رحب ومرتفع، إلا أن ذلك لا يُبيح التمادي في لغة الشتيمة، والإضرار بالعلاقة بين الناس، وإضعاف حالة التعايش بينهم، من خلال استيلاد الصراعات، وافتعال المجابهات التي لا خير فيها.

إن درء أخطار مثل هكذا حوارات، وتلافي أضرارها، وتفادي ما ينتج عنها من مشكلات ومفاسد، يتطلب من المتحاورين الحرص على الالتزام بالقيم أثناء النقاش، والتنبُّه إلى معيار المصالح والمفاسد فيه، وهل هناك مصلحة ما، أو مفسدة ما، في الطريقة والأسلوب الذي يديرون به حواراتهم. لأن طريقة الأداء خاضعة لميزان المصلحة والمفسدة، فإذا كان الأداء والممارسة مآلها الفوضى والنزاع والتشاجر، ويؤدي إلى الإخلال بالقيم، ويضر بالانسجام الاجتماعي، وحالة التعايش بين الناس، ويتسبب في إثارة التباغض، فإن الأولى ترك مثل هكذا نقاشات من باب سد الذرائع.

وجلي بأن الحوار قيمة عليا، وله أهدافه وغاياته السامية، وبالتالي يمكن الاستفادة منه من أجل تحقيق غاية ما، أو إنتاج فكرة ما، أو تعزيز مبدأ ما، أو من أجل التقريب والتقارب، والتي تعد في حدِّ ذاتها قيمة عظمى. لذلك على من يشترك في أي حوار أن يعرف ما يقول، ويميز ما يتلفظ به من كلمات، وينظر إلى قصده من التعبير، من أجل تفادي ما يمكن أن يطرأ من مشكلات تنجم عن هذا الحوار. فمعاني الكلمات، سلباً أو إيجاباً، لها صداها في النفس والعقل، ولها آثارها وانعكاساتها، النافعة أو الضارة، على الذات الإنسانية.

علاوة على ذلك يعد الحوار في صورته المثلى فرصة لتبادل الرؤى والأفكار والآراء بين المتحاورين حول قضيّة ما، أو موضوع ما، بلغة تتسم بالتقدير والاحترام، وبعيداً عن الخصومة والتعصّب، أو تصيّد العيوب، أو التشاتم والتحريض، أو التوتير والتهييج. حيث لا ينبغي أن يكون هدف الحوار إفحام الطرف الأخر وإذلاله، بل السعي للوصول معه إلى خلاصات ونقاط تجمع وتلاقي.

خلاصة القول بأنه في حال كان الحوار سيؤدي إلى إثارة المشاكل، من دون تحقيق أي مصلحة، أو دفع أي مفسدة، ويخل بالمشتركات والعلاقات العامة، ويضعف النظام الاجتماعي، ويتسبب في فرقة أبناء المجتمع، وشق صفوفهم، فإنه من الأجدى تركه نهائياً، أو تركه إلى حين أن تتهيأ الظروف المناسبة، حيث يمكن مناقشة أي موضوع حساس، أو قضية مختلف عليها. مع عدم إغفال أهمية البحث عن الشخصيات أو الأطراف المناسبة، ممن يملكون مهارات الحوار، ولديهم قناعة تامة بقيمته، وإمكانياته في تجاوز المشاكل، وحل المعضلات.