الفتنة

 

لا أحد خارج دائرة الفتنة. هذه حقيقة يؤكد عليها القرآن في العديد من آياته، كقوله تعالى: «أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ» وقوله: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ».

والفتنة من الفَتْن وهو إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، فالفتنة هنا تعني الابتلاء الشديد الذي تظهر فيه معادن الناس وتنكشف حقائقهم، وليكونوا أهلا لوعد الله عباده المؤمنين بالنعيم المقيم، أو غير أهل لذلك، إذ إن ادعاء الإيمان أمر سهل، أما التلبس به حقيقة فهو أمر عسير تكشفه اختبارات الفِتَن التي يحتاج اجتيازها إلى إرادة صلبة وعزم راسخ ويقين ثابت.

أما أنواع الابتلاءات والاختبارات الصعبة «الفِتَن» التي يتعرض لها الإنسان في حياته، فتتغير من شخص لآخر، ومن مجتمع لآخر، ومن ظرف لآخر. فقد تكون في المال أو الولد أو الجاه أو السلطة والقوة أو في العبادة أو في العلم أو في الثقافة أو السياسة أو الاجتماع وغيرها. وهذا ما بينته الآيات الكريمة في أكثر من موضع، كقوله تعالى: «وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ» وقوله: «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً» وقوله: «ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ» وقوله: «وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً. لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ» وقوله: «وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ».

كل واحد منا مُعرّض في حياته للكثير من الفتن، فقد يُفتتن بوفرة المال والغنى المادي، فيكون سليمانيا يقول: «هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ» أو قارونيا يقول: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ عِنْدِي»، وقد يُفتتن بالسلطة فيكون كذي القرنين يسير في من هم تحت سلطته سيرة عادلة: «قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى‏ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً. وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى‏ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً» أو يكون على الضد منه: «وَإِذا تَوَلَّى سَعى‏ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ». وقد يُفتتن بالمكائد الشيطانية الخفية في شتى المجالات لإخراجه من ساحة العبودية لله إلى عبادة الذات والشيطان والأهواء: «يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ. وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ».

المهم أنه لا أحد فوق أن يُفتتن، فتلك سنة إلهية جارية على جميع البشر، حتى الأنبياء منهم، كما قال تعالى مخاطبا نبيه موسى : «وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً». وإن إدراك هذه الحقيقة يتطلب منا أن نكون في حالة استعداد دائم لاجتياز اختبار الفتنة بنجاح، حتى لا نكون ممن قال عنهم القرآن: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى‏ حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى‏ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ».

شاعر وأديب