توجيه الوعي

في عصر التطور العلمي والكشوف المعرفية، من البديهي أن يكون الإنسان أكثر وثوقاً بعقله الذي سخر له كل ذلك بما فيه دراسة العقل نفسه والولوج إلى أعماقه، فالتقدم على مستوى العلوم الطبيعية «الصلبة» بَيِّن واضح، ولكن على الجانب الآخر أي العلوم الإنسانية «المرنة» كعلم النفس والإجتماع والتاريخ والفلسفة وعلم النفس الإجتماعي وغيرها لا تجاريها تقدماً فهي أكثر تعقيداً وأقل ربحيةً على المستوى المادي.

تتعلق العلوم الطبيعية باكتشاف قوانين الطبيعة للسيطرة عليها وتسخيرها، أما دائرة اهتمام العلوم الإنسانية فهو النواحي الإنسانية للعالم والحياة، ورغم تأخرها النسبي إلا أن النتائج حول العقل الإنساني كلما تكشفت أكثر قل الوثوق به وبأحكامه، إذ أنه يرزح تحت وطئة عدة قيود منها النفسية المتمثلة في الميول والرغبات والعواطف، واجتماعية تفرضها الإنتمائات الطبقية والقبلية والطائفية، وأُخرى قِيَمِيَّة أخلاقية متعلقة بالعادات والتقاليد والأعراف، ما يجعل الإنسان عرضةً لتحيزات يصعب الفكاك منها، ولذا من الصعوبة بمكان الوثوق بالأحكام الصادرة عنه في قضية قد تتعارض مع هذه التحيزات المكونة للهوية.

هذه القيود تصنع جدراناً يصعب على العقل اختراقها فيبقى الإنسان يدور في مكانه تائهاً في معارك لا يحارب فيها إلا طواحين الهواء مالم يتجاوزها.

تؤكد نظريات علماء النفس من منتصف القرن التاسع عشر صعوبة الإفلات من ربقة هذه القيود، فمن فرويد ونظرية الوعي واللاوعي، وكون اللاوعي المليء بالنزوات والشهوات الجنسية المكبوتة وغيرها هو الجانب الأكبر والمسيطر، وأن العقل الواعي يصارع باستمرار لمنع ظهور هذه النزعات المظلمة بالأخلاق المغروسة اجتماعياً ويخفيها تحته، فلا تبدو إلا قمة جبل الجليد الذي هو الوعي ويبقي معظم جبل الجليد «اللاوعي» مغموراً تحت المياه.

وجون ديوي الذي يقول بأن العقل أداة للبقاء أكثر منه أداة للتفكير بالمجردات.

إلى نظرية العقل التنبؤي التي بدأت تلقى قبولاً على حساب نظرية فرويد، وهي تقول بعدم وجود جانبين يتصارعان على العقل، بل أن العقل نفسه خليط من الوعي واللاوعي في نفس الوقت وهما يتشاركان الإدارة، بل إن أكثر أفكارنا وأفعالنا عقلانيةً تنتج من عمليات لاواعبة تلقائية، وهذه العمليات التلقائية تلعب دوراً رأيسياً في العقل متغذيةً على المدركات والتجارب، ما يجعلها قادرة على التنبؤ بالأحداث، فهي كالطيار الآلي للطائرة ولا يعود العقل الواعي إلا عند فشل التنبئات لتصحيح المسار، ويميل الدماغ دائماً إلى استعمال الحد الأدنى من الوعي، لأن الوعي يعني حَدَثاً مفاجئً أو خطأً في التنبأ وهي حالة يحاول الدماغ أن يحد منها.

وتؤيد نظريات إبراهيم البليهي هذا الواقع عندما يؤكد أن الإنسان كائن تلقائي وأن العقل يحتله الأسبق إليه، وهو مبرمج على ما تراكم في عقله من ثقافة شفهية غير ممحصة.

كما لا ننسى تأثر الإنسان بالسياقات البيولوجية غير الموضوعية والأثر العالي لها عليه، كالكريزما عند المتحدث أو طوله أو جماله أو ثقته بما يقول والتي لا علاقة لها بتاتاً في أساس القضية المراد البت فيها، وكذلك أثر التكرار والرأي العام والرأي الأسبق.

ما أريد قوله من كل هذا هو أن المعرفة الحقيقية ليست بالبساطة التي نعتقدها والسهولة التي نتمناها، وأن الكثير من مسلماتنا الذهنية هي غير نهائية وتحتاج نقد وإعادة نظر دائمين، ولا أقول أن على الإنسان أن يلغي هذه القيود النفسية والإجتماعية فهي جزء من طبيعته ولكن عليه أن يتعالى عليها بحيث لا تُؤثر على أحكامه، فمن دون ذلك لن يتحرك إلى أي مكان وسيبقى محبوساً داخل القوانين الطبيعية والمسارات التاريخية والإجتماعية الذي هو جزء منها والتي لا يمكن أن يتجاوزها إلا بعقله الواعي المحتاج إلى جهد متواصل، وعقل ناقد لا يسلم دون تحقق وتثبت ليتحرر من سياقاته وتحيزاته إلى الإتجاه الصحيح.

فالإنسان هو الكائن الوحيد القادر على الإفلات من سياقاته وصيروراته وأن يتمرد عليها، وذلك فقط بوعيه الحر.