ثِقل الواقع

كثيراً ما نقابل أفراداً بعد بضع سنوات من آخر لقاءٍ لنا بهم، وننذهل من مدى التغير الطارئ على محياهم، وانطفاء ذلك البريق الذي كان يوماً يومض في أعينهم، والحيوية التي خبت في عروقهم، لا أعني هنا الأثر الذي تتركه السنين على المعمرين من كبار السن، بل أثر الواقع الثقيل على النفوس والذي لا ينجو منه أحد، والذي يمكن لحاظه بسهولة حتى على الصغار الذين يختفون عن أعيننا فترة قد لا تتجاوز السنة أو السنتين، ثم نلتقيهم فجأة بينما لانزال نحتفظ بصورتهم القديمة في ذاكرتنا فنذهل ويأخذنا الأسى والأسف على هذا التغير الإنتكاسي، كم من فردٍ كان يتوقد ذكاءً وفطنة يملؤه العزم والأمل والنشاط بالحياة التي يستقبلها مقبلاً عليها، حتى تخلفه ورائها بعد مدةٍ قصيرة من صدمات الواقع وخيبات الأمل وهو لا يكاد يبصر أمامه، هذا هو ضغط الواقع الثقيل الذي لا ينجو منه أحد كما أنه غير عادل إذ يذوق البعض الأمرين أكثر من غيرهم ولكن لا يسلم منه أحد في النهاية.

يقول الشاعر

ما أجمل العيش لو أن الفتى حجرٌ

تنبو الحوادث عنه وهو ملمومُ

هذا الأثر الظاهر على الأبدان، أما الأثر الباطن فهو أعظم وأعمق على السلوك والأخلاق، فالإنسان في النهاية ابن بيئته ومحيطه المتفاعل معه والمنفعل به.

يذكر الدكتور علي الوردي في كتابه الأخلاق «الضائع من الموارد الخلقيه» أننا لا نستطيع إصلاح أخلاق الناس عن طريق المواعظ والنصائح فهي وليدة الظروف الإجتماعية التي ينشأ فيها الفرد وما لم تتغير تلك الظروف فإنا لا نأمل أن تتغير الأخلاق وبهذا يصدق قول القائل «غير معيشة المرء تتغير أخلاقه»، يبدو أن أثر الواقع وسطوته على الفرد أقوى من المواعظ المثالية التي تبقى معلقة في عالم المثل ما لم تؤازر بواقع يصنعها.

يؤكد علماء النفس والإجتماع على الأثر الذي يتركه المجتمع على شخصية الفرد وأخلاقة، يبقى الإنسان رهناً لظروف مجتمعه التي تكونت وتشكلت بأحداث لم يكن له أي يدٍ فيها قبله بعشرات بل مئات وآلاف السنين، وقد يكون هذا المجتمع متقدماً أو متخلفاً أخلاقياً، وفي الحالتين غالباً لن يعدو دوره أن يكون فرداً مؤثراً ومتأثراً في أحدهما.

يبين الدكتور مصطفى حجازي في كتابه التخلف الإجتماعي «مدخل إلى سيكلوجية الإنسان المقهور» وضع الإنسان المقهور في المجتمعات المتخلفه بكل دقه مبيناً أن التخلف ليس بنيةً ساكنة، وإنما هي بنية ذات ديناميكية نشطة ومتحركة رغم سكونها النسبي، وهي قائمة على القهر والتسلط، نتيجة العجز أمام قوى الطبيعة واعتباطها أو اعتباط المتسلط، مما يجعل المقهور أمام خيارين «بعد الثالث الذي هو المواجهة وعادةً ما يكون عاجزاً عنه أو يظن أنه كذلك»

الأول: هو التماهي مع المتسلط ليعوض كرامته المهدوره، وهذا يستتبع التنكر إلى جماعته المنتمي إليها بل وإلى لعب دور يكون فيه أكثر تسلطاً واستبداداً من جماعته المُتَسَلَّط عليهم.

الثاني: هو الكبت والإنزواء وهذا يؤدي إلى تفريغ هذا الكبت ورد الإعتبار بطرق أخرى عوض المواجهة والتي منها الحيلة والخداع والعنف المبطن ما يؤدي في النهاية إلى التطبع بأخلاق المستبد التي هي أخلاقيات المجتمعات المتخلفه.

ويضيف إلى أن وضع المرأه في هذه المجتمعات هو أوضح وأصرح مثال على هذا الوضع الإجتماعي المتخلف، إذ تتلقى القسط الأكبر من القهر والتسلط وبخس الحقوق كونها تحت الوصاية الذكورية المُتَسَلَّط عليها أصلاً ما يضاعف اضطهادها والتسلط عليها، وهذا يفسر الكثير من لجوئها وتمسكها بالطالع والفأل والحسد والجن والسحر بعد إنغلاق جميع أبواب سيطرتها على مصيرها فلا يبقى لها إلا هذا المنفذ الماورائي الذي تعلق عليه آمالها وتتقي به مخاوفها، وينتهي إلى أن الإنسان لن يصل إلى توازن الشخصية المتوازنة المعافاة إلا إذا تحرر من وضعية القهر التي تفرض عليه، ولا يمكن للرجل أن يتحرر إلا بتحرر المرأه، فلا يمكن للمجتمع أن يرتقي إلا بارتقاء أكثر فئاته غبناً، فالإرتقاء إما أن يكون جماعياً عاماً أو هو مجرد مظاهر وأوهام.

توضح هذه التحليلات من علماء النفس والإجتماع الكثير من أسرار النفس الإنسانية وتجيب الكثير من الأسئلة، وبمقدار متعة كشف هذه الأسرار وإجابة الأسئلة هناك الكثير من الألم لانطباق الكثير من آثار القهر والتسلط على مجتمعاتنا العربية.