العزوف عن القراءة والعقل الجمعي

يساهم ما يسمى بالعقل الجمعي في ابتعاد الناس عن القراءة بشكل غير مباشر؛ فحديث المجتمع حول أمور أبعد ما تكون عن عالم الكتب والقراءة، مثل مسلسل شهير أو فلم جديد، أو مباراة كرة قدم أو لعبة إلكترونية ذات شعبية، يساهم في تشكيل «عقل جمعي» في ذلك الاتجاه يشد الناس دون شعور نحوها بعيدًا كل البعد عن القراءة وعن كل فعل إيجابي وبنَّاء.

والعقل الجمعي «Collective Mind» هو ظاهرة نفسية يَفترض فيها الناس أن تصرفات الجماعة تعكس سلوكًا صحيحًا، إما بسبب العجز عن الوصول إلى حقيقة ما، وإما لعدم وجود الوقت الكافي للتفكير في ذلك، وإما لاعتقاد أن التوجه الذي يختاره المجتمع هو الأصلح والأنسب، وإما بسبب الرغبة في التماهي مع المجتمع؛ للاعتقاد بأن خياراته هي الأنسب أو لعدم الرغبة في الاصطدام به.

ولذلك فإنه وفي كثير من الأحيان يساهم العقل الجمعي في صياغة سلوك وتوجهات حتى النخبة المثقفة فيه؛ حتى إنه قد يصل إلى أن يمسخ شخصياتهم، كما يمكنه أن يخرج لنا بنسخ مكررة ممجوجة لا طعم لها ولا رائحة.

ومن مصاديق التماهي - المقصود أو غير المقصود - مع المجتمع الابتعاد عن الكتب والقراءة، والالتصاق بعالم الهواتف المحمولة الذكية، التي وإن كانت لا تخلو من فوائد جمة، ويمكن استخدامها للقراءة، إلا أن هذا النوع من القراءة قد لا يعزز إلا ما يسمى بالقراءة العابرة مقابل ما هو مطلوب وضروري لبناء الأرضية الثقافية الصلبة للناس؛ وهي القراءة المعمقة أو قراءة أمهات الكتب. وهناك أيضاً ما يلاحظ في عالم اليوم من الإقبال على ما يسمى ثقافة الصورة والفيديو، التي لا تخلو من فوائد، إلا أن المشكلة تكمن في الاعتماد الكلي عليها من قبل البعض كمعين ثقافي.

أعرف أشخاصًا يحبون القراءة وحمل الكتب معهم في كل مكان، لكنهم يمتنعون عن ذلك مخافة وصمهم بأوصاف غير لائقة، مثل كونهم معقدين أو انعزاليين. وهكذا فعندما يتوارى حاملو الكتب عن الأماكن العامة ويكتفون بالقراءة داخل بيوتهم، في حين يتباهى حاملو الهواتف بآخر إصداراتها، حينها لا يمكن إلا أن نقول إن العقل الجمعي قد حضر هنا بقوة.

وكلامنا هذا لا يعني الجزم بأن العقل الجمعي شر مطلق في جميع الأحوال والأوقات، لكنه عندما نلحظ أن التخلف يضرب بأطنابه في عمق المجتمع، وأن هذا المجتمع لا يخرج من حفرة إلا ويقع في أخرى أعمق منها، عندها يجب على الأفراد أن يفكروا مرارًا وتكرارًا وباستقلالية؛ وذلك للتخلص من سطوة هذا العقل.

وكما أن العقل الجمعي لمجتمع ما قد يبعد البعض عن عالم القراءة فإنه يمكن في المقابل التسلح بالقراءة من أجل تعزيز التفكير المستقل فيما يشبه ما يسمونه في عالم كرة القدم بالهجمة المرتدة.

 

* أكثر ما يكرهه القطيع هو إنسان يفكر بشكل مختلف. إنهم لا يكرهون رأيه، ولكن يكرهون جرأته في الإقدام على التفكير بنفسه ليكون مختلفًا. آرثر شوبنهاور