يحي العظام وهي رميم

كعادته نهاية كل شهر، وفي عصر يوم الأربعاء بالتحديد،  شد أبو عبدالله الخمسيني أحزمته وربط أمتعته فوق سيارته، ركبت العائلة الكريمة السيارة العائلية، مغادرين مدينة الدمام ومتوجهين إلي مسقط رأسه منطقة الإحساء، هرج ممزوج بعصير بارد لم يستطع أن ينسيهم هزات المطبات الأرضية الصناعية، وتحويلات ثعبانية ماراثونية أثقلت كاهل أبوعبدالله مع سيارات الكابري ( بالميم ) الصاروخية.

المهم ساد هدوء للحظات قبل تحويلة كبرى كانت القشة التي قصمت ظهر سائقنا المشغول بالجوال، فإذا بكيانه قد أهتز.. فأختفت نظارته.. وطار جواله ! إنها مفاجأة لم تكن أبداً في الحسبان ! فقد صرخ بقوة صرخة سقطت معها قلوب عائلته على الأرض.. ماذا حدث ؟ فلقد أصطدم وجهاً لوجه مع عامل مقاول الطرق، والذي كان يحمل المسكين علماً أحمر فسفوري لتنبيه السيارات المسرعة ( تحويلة جديدة )، لكن أبوعبدالله كان مسرعاً ومشغول بالجوال ولم يتدارك الأمر، فإذا بالعامل يطير في الهواء ويسقط بجانب الطريق، فتوقف ابوعبدالله ونزل مصحوباً بالصراخ وعائلته تفعل نفس الشئ من خلفه ، فأمتلأ مكان الحادث بالسواد والأطفال، والصرخات ضربت جوف الصحراء يمنة ويسرى، فرمى غترته وشق صدره وهو يردد ( الله اكبر ) متجهاً إلي العامل المسكين، فتوقفت بعض السيارات ونزل أصحابها لرؤية ماجرى، فجلس عدد منهم عند أبوعبدالله المفجوع لتهدئته، فإذا بأحد الواقفين يصرخ ( الحمد لله ) هذا دمية هذا، هذا من خشب !

دمية! خشب! هكذا كررها أبو عبدالله، فإذا بالجميع يسرع نحو جثة العامل المتهشمة، فإذا الخبر صحيح، إنها دمية من خشبتين بشكل متقاطع، قد ألبست بدلة عامل الطرق، وتعتليه قبعة وعلم مربوط بيدها لتحذير السائقين، فأبتسم بوعبدالله ابتسامة مصطنعة والدموع تنهار على خديه بغزارة، وسعابيل فمه تسيل دون شعور منه ! فكرر الأية الكريمة ( يحي العظام وهي رميم ) عدة مرات ! إنه لا يعرف أهي ابتسامة سلامة العامل أو الضحك على نفسه ! فاقسم أمام الجميع إنه لن يسرع ولن يتحدث مع أحد أثناء القيادة، وخاصة بالجوال، هنا انتهت قصتنا، لكن مأساتنا مع السائقين المتهورين وخاصة الشباب أعضاء نادي التفحيط  والفورميلا 1 لم تنتهي، وباقية معنا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فأتمنى من وزارة الطرق و المواصلات التعاون مع إدارة المرور ووضع عدد من دمى ( الأطفال والرجال ) في الشوارع التي تقع بها تجاوزات سرعة ودهس، كي يقع أحدهم في موقف أبي عبدالله صاحبنا، فلربما يتعض ويعتبر.

هذا الاقتراح ليس من بنات أفكاري، إنها طريقة تعمل بها بعض الدول المتقدمة، فتضح دمى بها دم أصطناعي يتطاير مع الاصطدام ! ونسيت أن أخبركم، ماقاله لي ابوعبدالله : إنه وفي الدقيقة الأولى للأصطدام بالعامل الدمية، ذهب تفكيره إلي السجن ودفن الجثة، وغربلة أهله، ومدة الحق العام، وزواج أبنته بعد شهر، والناس التي تزوره في السجن، ودية المتوفي، وأشياء كثيرة أجتمعت في رأسه حتى بكى!

روائي وباحث اجتماعي