تشيع العراق كيف تحقق

الشيخ فوزي السيف

الحدث العراقي فاجأ الكثير بنحو مذهل. فاجأ الحضور الشيعي الغالب في العراق، والكثافة السكانية لهذا المجتمع المسلمين وغيرهم على السواء، وذلك أن الكل كان يتعامل على أساس أن العراق وهو بلد الخلافة العباسية، وخلاصة تاريخ الأمة الإسلامية، ومحل تطبيق القومية العربية.. بلد لا يشكل فيه الشيعة إلا نسبة قليلة ناقمة.. وهم في الغالب من أصول غير عربية..

تغير كل ذلك عندما جاءت الإحصاءات لتؤكد أن الشيعة العرب هم أكبر مكون عربي في العراق و لا يمكن أن يقاس بهم غيرهم في هذه الجهة.. وبالرغم من عدم (هضم) هذه المسألة من قبل غير العراقيين (إسلاميين وقوميين) واستماتتهم في نفي هذه الفكرة، والكتابة ضدها والتعبئة الاعلامية بما يخالفها، إلا أن الشمس لما كانت لا تغطى بغربال..أعادت هؤلاء وغيرهم إلى تلك الحقيقة المرة التي كان عليهم أن يتجرعوها ولو كانت مرة المذاق!.

نعم يشكل العراق أعظم تجمع شيعي عربي في العالم الإسلامي.. وقد تحولوا إلى أكثرية بعد سيرورة تاريخية متعددة المراحل ويمكن لنا أن نتابع التكون التاريخي للشيعة في العراق، حتى صاروا أغلبية السكان فيه بدءًا من أوائل القرن التاسع عشر، من خلال عدد من المراكز السكانية الأساسية، وهي الكوفة وبغداد والحلة..

فالكوفة التي مصرت أيام الخليفة الثاني عمر ، انتقلت إليها قبائل عربية كبيرة في نهاية سنة 17 هـ، فقد ذكر أن ثلاثمائة وسبعين من صحابة النبي صلى الله عليه وآله ، قد سكنوها، كما ذكر ابن سعد في الطبقات  ترجمة 850 من التابعين .

 ومع أن التشيع بمعنى الميل إلى الإمام علي بن أبي طالب كان موجودا في الكثير من تلك القبائل ، منذ أيام الخليفة الثاني والثالث ..إلا أن انتقاله عليه السلام إلى الكوفة بعد حرب الجمل مباشرة يعتبر الفاتحة الحقيقية للتشيع العقدي في العراق..
 
وبالرغم من تعرض الكوفة والتشيع فيها إلى هجوم أموي متواصل بدءا من أيام معاوية بن أبي سفيان ، كان من نتيجته حصول هجرات عربية شيعية ( همدانية إلى الشام ، وأشعرية إلى إيران ) فقد  بقيت الكوفة خزان التشيع ومع وجود أحاديث ظاهرها الذم لأهل الكوفة من الامام علي ، إلا أن هناك أحاديث مادحة من قبله ومن قبل الأئمة اللاحقين على وجه الخصوص ، ويمكن الجمع بين هذه الأحاديث إما بكون الامام كالطبيب يضع يده على مواضع العيب فينتقدها للعلاج ، أو بكونه يقصد الجماعات الخليلطة بجيشه ممن لا يسيرون على منهاجه وإن كانوا بحكم خضوعهم له موجودين في جيشه وتحت حكمه ، كما أن اختلاف الزمان بين فترته وما بعدها حيث مدح الكوفيون يمكن أن يفسر المدح والذم .

في ثورة كربلاء سنة 61 هـ ، و بالرغم من أنه كان هناك خمسة عشر مقاتلا إلى جانب الحسين من أهل الكوفة، إلا أن الانطباع السائد عند غير واحد من الباحثين أن الكوفة قد خذلت الإمام الحسين وهذا المعنى شكل محلا للانتقاد والتوبيخ قام به ابنه الإمام علي بن الحسين الذي جاء أسيرا إلى الكوفة ومعه نساء أهل البيت.

وتشير بعض الروايات إلى بقاء الإمام السادس جعفر بن محمد الصادق عليه السلام فيها مدة سنتين وأنه قد سكن في محلة عبد القيس .حيث كان مقصدا لأهل العلم والمعرفة ، وأثر ذلك أن ينتشر العلم العلوي في الكوفة بنحو متزايد ،  الأمر الذي يفسر مقالة الحسن بن علي الوشاء : (أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ كلهم يقول حدثني جعفر بن محمد) مما يفيد التلقي المباشر لهؤلاء الرواة.
 
 أما بغداد : فبالرغم من أن الاتجاه السائد فيها كان منذ تأسيسها هو عدم الانسجام مع خط أهل البيت حيث تنافس العباسيين معهم لا يسمح بذلك .. إلا أنه مع سيطرة البويهيين عليها سنة 334 هـ. بدأت الوجودات الشيعية فيها تظهر اجتماعيا كمناطق سكانية كالكرخ ، ورسميا كالشعائر . وساعد في ذلك الجو المنفتح الذي أرساه البويهيون ، ونشاط العلماء الاماميين كالمفيد والشريف المرتضى ومن بعدهما الشيخ الطوسي.

في الطرف الآخر كانت النجف والحلة ، تتشكلان في صورة مجتمع شيعي يبدأ ضمن حالة علمية حوزوية دينية ، خصوصا بعد أن هاجر الشيخ الطوسي من بغداد على أثر مشاكل طائفية ، وبعد وفاته انتقل المركز العلمي إلى الحلة ، ومعه تشكل في المنطق الجنوبية من العراق تجمعات تعتنق المذهب الامامي ..

 واستطاع علماء هذه المنطقة بحكمتهم أن ينجو من التدمير على يد المغول الذين دمروا من يقاومهم ..
 
وبقي الحال هكذا إلى أن بدأ متغير جديد هو الصراع الصفوي العثماني .. ليدخل العراق في معادلة جديدة .