قصة قصيرة

لوحة وحصار

تتعكز ويدها اليسرى على قلبها حيث موضع العملية، وهو يسمع نبض فؤاده : " هل سأفوز يا ترى؟! فالوقت قد شارف على الانتهاء "، تقف بعض اللحظات وتتلفت بتنهد لتدخل على ابنها في غرفته، يتوقف هو عن رسم لوحته لحظة، تدخل عليه فتراه يحدق في لوحته، تنفق عليه بعض بسمات الأمومة من ثغرها الشاحب الحزين عندما تجسرت المسافة بين عينيهما، يبتسم بدوره ليطبع بعدها قبلة حانية على رأسها وهو يتذكر مشهدها المؤلم بعد إجراء العملية مباشرة، لم يكن يستطيع أن يقاوم البكاء في تلك الساعة تدفقت مدامعه جداولاً تروي غايات النخيل الحالكة، بالنسبة له كان قلم الرصاص أصبعاً زائدة في يمينه، إلا أن مَقدم أمه العزيز كان كفيلاً أن يخلع من أجله أصبعه و قلبه وكل ما يملك لاستقبالها، تغيب شمسه حينما تغيب ويحل الغسق، إلا أن قدومها موسم ربيع تتنفس فيه الأزهار والقلوب ويشرق معهما الأمل، وتطل أشجار الإلهام بثمارها النضرة من نافذة مخيلته الباسقة، كانت خربشاته متعكرة الصفو، يتذكر أن لأمه ساقين، واليوم أصبحت بساق ثالثة يصعب عليها النهوض، إنها سنة الأنبياء ترافقهم العصا في كل ترحال، إلا أن التعب أصبح واضحاً في تجاعيدها كما هو الحال مع معشوقته المكبلة التي عزم أن يرسمها بكل ما تحمل الريشة من تفاصيل، تذكر طفولته وتذكر الملعقة التي تسكب بها الدهن على " العصيد " ثم تمسحه بطريقة سحريه، كانت تشاهد هذا الاستغراب في عينيه البريئة كيف تحولت العصيدة إلى حلبة تزلج يقطر لمشهدها اللعاب، ذات الملعقة تدفعها إليه، وما هي إلا دقائق حتى يقول لها : "هل من مزيد؟! "

غادرت أمه الغرفة ولم تغادر الذكريات المجنونة بأشباحها المتدفقة مسرح عقله الذي أصبح كالبلور اللامع، تناول القلم وأخذ يرسم ملامح طفولته لولد الحصار، جعل الملعقة الدهنية في يمينه، أخذ يشذب بالممحاة ثغر ذلك الطفل الذي تحرقه حرارة الشمس، ويبدو عليه الإصرار واضحاً رغم أن الرجال أصحاب الفؤوس والمساحيت قفلوا راجعين إلى منازلهم يحملون بضائع اليأس من اقتلاع ذلك الجدار الصلب، مثلت أمامه صورة أبيه وهو يعود منهك القوى محملاً بما لذ وطاب، إلا أن أطفال القطاع لا تزال وجوههم ذابلة وشفاههم يابسة لم يذوقوا كسرت خبز، أو يرشفوا قطرة ماء، عاود الرسم في تجاعيد رأس ذلك الطفل ذو الست سنين، وهو يمد الملعقة حافراً بها جزءً يسيراً من ذلك الطود الكبير الذي لا يكاد ينتهي، لم يشأ أن يضع توقيعه على تلك اللوحة، لكونه تذكر صمود الأطفال قبالة الدبابات الجارفة، تذكر محمد الدرة وأقرانه الذين ذهبوا دون أثر يذكر في نبض هذا الشارع العربي المحطم من كل إرادة، ترحم على "الشابي" وعلى قصيدته "إرادة الحياة" التي ليس لها أدنى صدى في واقعنا الحافل بالرزايا والمآسي، أعمض عينيه ليستجمع خيوط تلك المجازر التي شاهدها في شاشات التلفزة، أحمرت أجفانه وسالت بعض الدموع  وهو يشاهد من مخيلته أطناب الخيام المحروق على رؤوس اللاجئين والمشردين من وطنهم الحبيب، أسرته مرارة أيتام غزة المنهوكة وضحايا الضفة المسحوقة بلا رحمة، ضاق صدره ذرعاً لحال الأرامل وما يعانون من شؤم الاستجداء وذل المسألة، رسم مدرعة تسحق جماجم الأطفال والأبرياء العجز، وإلى جوارها طفل صامد يلقي بحجارته نحو الجنود بكل ما يمتلك من قوة النضال، جعل لسور الجدار أنياباً تقطر بالدماء، ترك لوحته وانطلق لأمه فلقد حان موعد الدواء، فطن أن أهل القطاع بلا علاج، وهو يهرول ليسقي والدته دوائها، أكمل ما تبقى من الملعقة إلا أن رائحة المطبخ كانت تفوح في تلك الظهيرة بالقدر المحترق، تناهى إلى مسمعه صوت المذياع : استشهد أكثر من 17 متضامنًا وأصيب 50 آخرين خلال هجوم القوات الخاصة بالجيش الصهيوني الوحشي في مذبحة أسطول الحرية، أضاف هذا الخبر للوحته نكهة جديدة، حيث مد بحراً في الجوار وأغرق البارجة الرابعة باللون الأحمر، بينما وضع بجوار المسجد الأقصى كرسياً يربض فيه ذو الكرشة المنتفخة والنجمة الداوودية بيساره مقلداً وسام السلام !