المعدن النفيس في أولمبياد باريس

قبل أربعة أعوام، كتبت مقالين متتاليين في هذه الصحيفة الرائدة عن صناعة البطل الأولمبي والاستراتيجيات الكبرى التي يجب العمل بها لضمان وجود واستمرار هذه الصناعة الرياضية الأولمبية التي تُعدّ من مظاهر ومصادر التطور والتميز للأمم والمجتمعات. وكل العالم الآن يُتابع بشغف وبهجة منافسات دورة الألعاب الأولمبية في نسختها ال33 والمقامة في العاصمة الفرنسية باريس في الفترة من 24 يوليو وحتى 11 أغسطس، بمشاركة 10714 لاعباً ولاعبة من 206 دولة ومنظمة عالمية.

والرياضة الآن، بل منذ عقود، تحولت إلى صورة مهمة تعكس حقيقة البشر بمختلف أعراقهم ومستوياتهم، بل وأصبحت قوة ناعمة ضخمة تؤثر وبشكل كبير وواضح في رسم ملامح الجذب والأصداء في كل تفاصيل الحياة. وأمامي الآن مثالاً مدهشاً عن دولة مغمورة بالكاد يعرفها العالم لولا تميز بعض لاعبيها في المسابقات الرياضية وخاصة الألعاب الأولمبية وهي جامايكا، دولة جامايكا من جزر الأنتيل الكبرى في البحر الكاريبي بمساحة صغيرة لا تتجاوز ال11 ألف كيلو متر مربع فقط، ويسكنها قرابة الثلاثة ملايين نسمة، جامايكا والتي تعني «أرض الينابيع» كما أطلق عليها ذلك سكانها الأصليون الناطقون بلغة الأراواكان، جزيرة صغيرة معزولة عن العالم، ولكنها تُصبح حديث العالم بمجرد أن يركض عداؤوها في مضمار منافسات العدو السريع في الألعاب الأولمبية كل أربع سنوات، فقائمة الميداليات الملونة في مسابقات العدو السريع الأولمبية مزدحمة بالأبطال الجامايكيين والجامايكيات أمثال: دونالد كوراي، مرلين أوتي، ديلورين لندن، شيلي فريزر، كيرون ستيورات، ألين بيلي، جولييت كوثبرت، فيرونيكا بروان، بريجيت فوستر، يوهان بليك، أسافا باول والكثير من العدائين والعداءات، ولكن الرمز الأشهر على الإطلاق الذي حمل جامايكا لكل العالم بكل خطواته السريعة الواسعة التي تسبق الريح هو يوسين بولت أسرع عداء في تاريخ الألعاب الأولمبية لسنوات عديدة، وحامل الأرقام القياسية في سباقي 100 و200 متر، وأول بطل يفوز بسبع ميداليات ذهبية في تاريخ الأولمبياد، وأحد أعظم الرياضيين على مر العصور.

قد تكون مشاركة رياضاتنا السعودية في أولمبياد باريس خجولة، فعدد لاعبينا ولاعباتنا لا يتجاوز الرقم 10، ولا ننتظر منهم العودة بالمعادن النفيسة المتمثلة بالميداليات الملونة، ولكنها مشاركة يجب أن تؤسس لثقافة ورغبة للمنافسة بالفوز في أعظم كرنفال رياضي عالمي تنتظره مليارات البشر كل أربعة أعوام، طموحاتنا وتطلعاتنا أكبر بكثير من مجرد المشاركة في هذا المحفل الرياضي الأممي، فنحن نعيش تحولاً وطنياً ضخماً طال كل ملامحنا وتفاصيلنا، وقطاع الرياضة في طليعة ذلك التحول الوطني الذي أصبح علامة فارقة أبهرت كل العالم.

صناعة البطل الأولمبي، صناعة شاقة وصعبة، تحتاج إلى التخطيط والصبر، ولكنها ليست مستحيلة، ونحن بإذن الله قادرون على النجاح والتميز في هذه الصناعة الرياضية العالمية التي تستحق الرعاية والاهتمام.

كاتب مهتم بالشأن السياسي والاجتماعي والوطني