حديث الروح... لا صدى الصوت
حين تنطلق الكلمات من أفواهنا، فإنها ليست مجرد أصواتٍ عابرة، بل مرآة تعكس عمق ثقافتنا، ونبض فكرنا، ونقاء نوايانا. فالثقافة الحقيقية ليست في عدد الكتب التي قرأناها، بل في ما ترجم منها إلى سلوك وأثر، في حديثٍ يلامس القلوب ويهدي العقول.
- - -
الكلمة مسؤولية... لا عبث
أن تتحدث، يعني أن تختار، أن تزن الكلمة قبل أن تنطلق. كن كما قال أحد الحكماء: ”لوددتُ أن تكون لي رقبة الزرافة، حتى أتمعن في كل كلمة قبل أن تخرج من فمي.“
فالكلمة مسؤولية، وإن لم تكن كذلك، ماتت قبل أن تُولد.
- - -
شجرة الكلمة الطيبة
ولأن الكلمة الطيبة حياة، فقد عظّمها الله في كتابه فقال:
﴿أَلَم تَرَ كَيفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصلُها ثابِتٌ وَفَرعُها فِي السَّماءِ﴾ [إبراهيم: 24]
فهي كلمة تثمر أثرًا، وتترك ظلًا لا يُمحى.
- - -
لكل عقلٍ مفتاح
حين تتحدث، انظر في عيني مستمعك، افهم عقله، خاطبه على قدر وعيه، لا تزدحم عليه بكلماتٍ لا يعرف كيف يسكنها.
تذكّر أن للطفل حديثًا، وللعالم حديثًا، ولكل عقلٍ مفتاح.
- - -
لا تجعل حديثك أوراقًا يابسة
اجعل لحديثك روحًا... فلا تكن الكلمات جافة كأوراق الخريف، بل انثر فيها دفء الصدق، وبهجة الإخلاص، وحرارة الشغف.
لا تثرثر فتضيع، ولا تتشعب فتُنهك المستمع، بل أمسك بخيط المعنى، وسر معه بثقة.
- - -
كلمة تُحيي... وكلمة تُميت
واهمس في داخلك دومًا:
حديثي ليس للهو، بل هو مسؤولية.
فلتكن كلمتي حياة، لا جرحًا... نورًا، لا ضبابًا.
وليكن أثرها كالغيث، يروي الفكر، ويحيي القلب.
- - -
بشر الحافي... حين أيقظته الكلمة
ولعلّ من أبلغ الصور على أثر الكلمة الصادقة ما حدث مع الشاب بشر، الذي كان لاهياً في مجالس الطرب واللهو في بغداد.
مرّ الإمام موسى الكاظم ذات يوم بداره، فسمع أصوات الغناء تعلو. خرجت جارية من الدار، فسألها الإمام بهدوء عميق:
- صاحب هذا البيت، أحرّ أم عبد؟
قالت: حرّ.
فقال الإمام: صدقتِ، لو كان عبدًا، لخاف من مولاه.
دخلت الجارية وأخبرت بشرًا بما سمعته، فارتجف قلبه، كأنما اخترقت تلك الكلمات جدران الغفلة داخله.
قال دامع العين:
”بل أنا عبد... عبدٌ ضيّع مولاه!“
وما إن سكنت في قلبه تلك الكلمة، حتى تبدّل حاله، وخرج حافيًا، يركض، يبحث عن الإمام.
ولما لحق به، قال بانكسار:
”أنا عبد... وقد عرفت مولاي وتبت إليه.“
- - -
اختم بلسان النور...
هكذا تُحيي الكلمة... حين تُقال بصدق، وتُسمع بقلب، وتُثمر بتوبة.
فمن يتقن الحديث... يزرع الوعي، ويبني الإنسان.