خفة المعنى وثقل الأشياء حين تبدأ الرحلة من المطبخ
في زحمة الحياة الحديثة، بين العمل والبيت والمسؤوليات، نجد أنفسنا أحيانًا محاطين بأشياء كثيرة، لكنها بلا روح، بلا دفء، وبلا معنى. في هذا المقال سأخذكم برحلة، تبدأ من ترتيب البيت، وتنتهي بالترتيب الداخلي
في وجود أشياء لا معنى لها، يكمن ثقل خفي، لا يُرى بالعين المجردة، لكنه يحني الروح بثقلٍ يشبه صخرة تتكور في القلب، تلك الأشياء التي نكدّ ونتعب في اقتنائها، ونراكمها في الزوايا والخزائن، حتى تكاد تنفجر الأماكن من حولنا، لا لشيء… فقط لأننا نخشى الفراغ، أو لأننا خدعنا بفكرة أن الامتلاك يمنح الطمأنينة.
وأنا كربة بيت، وموظفة، وامرأة تحمل بين كتفيها همّ التفاصيل اليومية التي لا تنتهي، لم أكن أنوي الكتابة عني، لكنّي وجدت نفسي وجهًا لوجه أمام مشهدٍ صاخب بالصمت… حين وقفت في المطبخ، وبدأت عملية فرز مؤجلة منذ زمن. كنت أبحث عن ترتيب، عن مساحة، عن هواء أتنفسه وسط اختناق الزحام المادي، فإذا بي أكتشف حياة كاملة من التكديس غير المبرر والركام الذي يثقلنا.
أكواب مكررة، أدوات كهربائية لم تُستخدم يومًا، أو استُخدمت مرة، ثم نُسيت. أكياس وأوانٍ، علب فارغة نحتفظ بها ”لربما نحتاجها لاحقًا“، وزينة موسمية فقدت بريقها، لكنها ما زالت تحتل حيّزًا من وجودي، وكلما أمسكت شيئًا بيدي، كانت الذاكرة تسألني لماذا؟ متى؟ لأجل من؟
أدركت حينها أن اللا معنى لا يسكن الأشياء فقط، بل يسكن العادات، والقرارات، وأحيانًا العلاقات. نسير بعادة الاحتفاظ، بعادة التحمل، بعادة المضي قدمًا رغم الإرهاق، وكأننا نخشى الاعتراف بأننا نحتاج أن نتخفف، لا أن نمتلك أكثر.
استراحة الإجازة أم وقفة مع الذات؟
الإجازة، التي يفترض بها أن تكون راحةً واستعادةً للأنفاس، تحولت إلى مرآة عاكسة لكل ما تم تأجيله، من ترتيب المنزل، إلى ترتيب الذات، وعندها فقط، عرفت أن التنظيف الحقيقي، لا يبدأ من المطبخ أو الخزائن، بل من الداخل، من الأفكار، من القناعات، من استعادة المعنى في زمن كثرت فيه التفاهات المغلفة ببريق الاستهلاك.
لا أريد أن أبدو مثالية، ولا أدعي أنني تخلصت من كل اللا معنى، لكنني بدأت أرى، وأول الرؤية، أن نتوقف ونتمعن في كل ما يشغل حيزًا منّا دون أن يمنحنا دفئًا، أو حتى جدوى.
وهكذا، وسط أكوام الأشياء، وجدت ما هو أعمق من الفوضى المادية: وجدت نفسي، أدركت أن التخلص من اللا معنى لا يعني رمي ما لا نحتاجه فقط، بل يعني التحرر من أثقال اعتدنا حملها دون أن نسأل لماذا.
لقد آن الأوان أن نعيد تعريف القيمة، أن نعيد ترتيب أولوياتنا بما يليق بحياتنا لا بما يملى علينا. فالمعنى لا يقتنى، بل يصنع في البساطة، في الاختيار الواعي، في المساحات التي نمنحها لما يُشبهنا حقًا.
ربما لا نملك القدرة على تغيير كل شيء، لكننا نملك الحق في أن نعيش بخفة، خفة المعنى، لا فراغه.