أعرف لتبدأ.. وتدرّب لتتميز
التدريب هو الركيزة الأساسية لتطوير المهارات والخبرات، وهو السبيل الأوثق لتحقيق التميز والنجاح المستدام لأنه يمنح الفرد القدرة على صقل مهاراته ورفع كفاءته، ويُعدّه لمواجهة التحديات المستقبلية التي لا ترحم من يكتفي بما تعلّمه بالأمس.
ولهذا، نرى أن كثيراً من المؤسسات والمديرين لا يُعطون التدريب الأهمية التي يستحقها، وذلك في تصوري لاعتقادهم بإن التعلم أثناء العمل كافٍ لتطوير الموظف أو لأنهم يرونه نشاطاً شكلياً لا يستحق الإنفاق عليه، أو لأن الإدارة مشغولة بالروتين اليومي وتحقيق الأهداف قصيرة المدى أكثر من اهتمامها ببناء الكفاءات وتطويرها.
ونتيجة لذلك، كثيراً ما يقتصر التدريب في تلك المؤسسات على المحاضرات النظرية أو ورش العمل السطحية دون متابعة أو تقييم للأثر الفعلي في الأداء والسلوك، بخلاف الشركات أو المؤسسات التي أدركت أن التميّز لا يصنعه الحظ او الصدفة أو القدّر، بل يصنه الاستثمار الذكي في الإنسان، فتبنّت التدريب كخيار استراتيجي لا كإجراء شكلي.
ومما يثير الانتباه أن الانفاق العالمي على التدريب المهني يتزايد عاماً بعد عام، إذ تتنافس كبريات الشركات في تصميم وتنفيذ برامج تطوير قياداتها وكوادرها، مدركة أن رأس المال البشري هو الثروة الحقيقية التي تصنع الفرق بين النجاح والفشل.
ولذلك، من أراد أن يبدأ فعليه أن يعرف، ومن أراد أن يبرز ويتميّز فعليه أن يتدرّب ويستمر في التدرّب، لأن التميّز لا يُمنح.. بل يُنتزع بالتعلّم المستمر، والتدريب الواعي والممارسة الجادة، ولكن ماهي فلسفة التدريب وما الفرق بينه وبين التعليم أثناء العمل، ولماذا هو مهم إلى هذه الدرجة، وماهي الصعوبات التي تقف عائقاً في سبيل تطويره وتحسينه؟
فلسفة التدريب
التدريب: عبارة عن نشاط مستدام ومنتظم لنقل المعرفة وتطويعها لخدمة العمل وأهدافه، من خلال تفعيلها إلى مهارات وحلول واتجاهات إيجابية على جميع المستويات الإدارية، وتوجيهها الدائم والمستمر نحو رفع معدلات مستوى الأداء والكفاءة الإنتاجية.
وصفة الاستمرارية والاستدامة في التدريب الإداري، تؤكد لنا بما لا يدع مجالاً للشك، بأن التدريب لا يقف ابداً عند مستوى معين من تطويع المعرفة ونقلها إلى مهارات وسلوكيات، لإنه عملية متجددة ومستمرة بطبيعتها.
أما صفة الانتظام فهي التي تنظم مساره وتضبط إيقاعه، وتمنحه القدرة على تحقيق الأثر المطلوب في الوقت والمكان المناسبين.
وهذه الصفات هي ما تُميز التدريب عن التعليم، الذي قد يتسم أحياناً بالتشعب والتداخل والتضارب، بينما يبقى التدريب موجهاً نحو هدف محدد ومرتبط بواقع العمل واحتياجاته الفعلية.
الفرق بين التدريب والتعلم أثناء العمل
يُعد كلُّ من التعليم والتدريب ركيزتين أساسيتين في بناء الإنسان وتطوير المجتمعات غير أن الفرق بينهما جوهري في الغاية والمنهج والنتيجة
فالتعليم يهدف إلى توسيع الأفق والمدارك ويُزود الفرد بالمعرفة والمفاهيم النظرية والقيم الفكرية التي تُشكل الإطار العام للفهم والإدراك، فمثلاً: قد يتعلم الموظف مبادئ إدارة الوقت نظرياً، ولكن من خلال التدريب يتقن تطبيقها عملياً في بيئته اليومية، بينما التدريب يهدف إلى تحويل تلك المعارف إلى سلوك عملي ومهارة قابلة للتطبيق، وبعبارة أخرى " التعليم يُنير الطريق، بينما التدريب يُعلّمك كيف تسير فيه بخطوات ثابته.
كما أن التدريب يهدف إلى رفع الكفاءة الإنتاجية وإلى سد الثغرة بين متطلبات الوظيفة وإمكانات الفرد ووصولا إلى استخدام العاملين لأقصى طاقاتهم في مجال وظيفتهم.
ومن هنا نقول إن دور التدريب لا يتوقف عند تطوير المهارات الفردية فحسب، بل قد يتعدّاه إلى بناء بيئة معرفية مستدامة تُثري الخبرة وتضمن انتقالها بين الأجيال داخل المؤسسة، كما ويُسلّط هذا المفهوم الضوء على حقيقة بالغة الأهمية وهي: أن التدريب لا يقتصر على قاعةٍ أو دورةٍ محدود ة الزمن، بل هو منظومة حيّة تتنفس بالخبرة والتجربة والتفاعل الإنساني.
فالمؤسسات الرائدة اليوم لا تكتفي بتدريب موظفيها، بل تسعى إلى صناعة بيئة معرفية تتوارث فيها الأجيال الخبرة كما تتوارث الشعوب تراثها الثقافي.
ومن هنا أيضاً تتجلى أهمية الاستفادة من خبرات القيادات السابقة والمتقاعدين الذين صنعوا بصماتهم في ميادينهم، فالمتقاعد ليس مجرد صفحة طويت بل كتاب زاخر بالتجارب والمواقف والحكايات الناجحة التي ينبغي أن تُروى ليستفيد منها الأجيال القادمة، وكما قال الفيلسوف والمُعلم الصيني العظيم ”كونفوشيوس“ إذا نقلت علمك لغيرك فقد تضاعف علمك ”وكما قال بيتر دراكر“ أفضل القادة هم من يخلقون قادة لا أتباعاً ”وعلى مستوى العالم يكفي أن نعلم أن بعض الشركات الأمريكية المشهورة تخصّص ما يُقارب 20% من موازناتها السنوية للتدريب و“ بعضها يزيد عن هذا الرقم قليلاً ”وهذه تُعتبر“ ميزة " كبيرة وتعكس درجة الأهمية الكبرى التي توليها هذه الشركات لبند التدريب.
لماذا التدريب مهم؟
والجواب يكمن في التالي:
1 - لأن التدريب هو الجسر الذي يعبر عليه الإنسان من المعرفة إلى التميّز، ومن الفكرة إلى الفعل، ومن الإمكان إلى الإنجاز، ولأن التدريب يطوّر العقل والمهارة والسلوك في آن واحد، فهو لا يُضيف معرفة فقط، بل يصنع إنساناً أكثر قدرة على الإنجاز والإبداع والتأثير، ولهذا يُقال: إذا أردت أن تبني مؤسسة ناجحة فابدأ ببناء إنسانٍ ناجح فيها "
2 - لأن التدريب ليس ترفاً بل هو أداة استراتيجية لرفع الإداء وتقليل الأخطاء والتكاليف، فالموظف المدرّب يُنجز أكثر في الوقت الأقل، ويتعامل مع المواقف المعقدة بمرونة واحتراف، وقد أثبتت الدراسات أن المؤسسات التي تستثمر في التدريب تحقق أرباحاً أعلى بنسبة تتراوح بين 15% إلى 25% من نظيراتها التي لا تفعل.
3 - لأن كل ريال يُنفق في التدريب يعود على المؤسسة اضعافاً في صورة إنتاجية أعلى، وولاء وظيفي أقوى وانخفاض في معدل الدوران الوظيفي، وهذا ما أشار اليه تقرير LinkedIn learning إلى أن " الشركات التي تضع التدريب ضمن أولوياتها الاستراتيجية تزيد احتمالية بقائها في السوق بمقدار 3 أضعاف عن غيرها.
4 - لأن العالم يتغير بسرعة مذهلة «تقنيات جديدة، أنماط عمل متطورة، تحديات غير مسبوقة..» ووفقاً لتقارير المنتدى الاقتصادي 44% من المهارات الحالية ستتغير خلال السنوات الخمس القادمة، ما يجعل التدريب ضرورة لا ترفا، والمؤسسات التي لا تتدرب تتآكل معرفتها ببطء حتى تتفاجأ بأنها خارج المنافسة.
الصعوبات والعراقيل التي تقف عائقاً وراء التدريب
تتعدد الصعوبات التي تُعيق مسيرة التدريب الفعّال في المؤسسات، ولكن يمكن تصنيفها إلى عدة محاور رئيسية ومنها
أولاً: ضعف القناعة القيادية
حين لا تُؤمن القيادة العليا بأن التدريب استثمار حقيقي في البشر قبل أن يكون إنفاقاً على البرامج، تضيع البوصلة وتغيب الرؤية البعيدة، إذ يُنظر إليه كتكلفة يمكن الاستغناء عنها عند أول أزمة مالية أو ضغط تشغيلي لا كرافعة استراتيجية لتطوير الأداء وضمان الاستمرارية، وحين يغيب هذا الإيمان العميق بدور التدريب في بناء الإنسان وصقل الكفاءات يتحوّل إلى نشاط ثانوي يُمارس لمجرد استيفاء متطلبات شكلية أو لإظهار الاهتمام أمام الآخرين فيفقد جوهره وتأثيره ولا يُضيف قيمه حقيقية للمؤسسة
ثانياً: غياب التخطيط والرؤية
كثير من برامج التدريب تُنفّذ دون دراسة دقيقة لاحتياجات المؤسسة أو لربطها بالأهداف الاستراتيجية، فتُبنى على اجتهادات فردية أو تقليد لتجارب مؤسسات سابقة دون مراعاة لخصوصية البيئة الداخلية وطبيعة التحديات الفعلية لتكون النتيجة غياب الأولويات وهدر الموارد في برامج لا تُلامس الواقع العملي للموظفين
ثالثاً: قصور ميزانيات التدريب
في بعض المؤسسات أو الشركات يُنظر إلى الإنفاق على التدريب بوصفه عبئاً مالياً وليس استثماراً فيُقلّص التمويل وتُختصر البرامج فتفقد جودتها وجدواها، ومع مرور الوقت تظهر الفجوة واضحة بين ما تتطلبه الوظائف من كفاءات وما يملكه العاملون من قدرات فتزداد الأخطاء وتتراجع الإنتاجية
رابعاً: عدم الاستفادة من الخبرات المتراكمة
تُهمل بعض المؤسسات العقول النيّرة التي تمتلك خبرات طويلة، فبدلاً من استثمارها في نقل المعرفة للأجيال الجديدة، تُترك طيّ النسيان فتُعاد الأخطاء ذاتها وتُهدر سنوات من الجهد والمعرفة المتراكمة
الخاتمة
ومن هنا: فإن النداء موجّه اليوم إلى جميع القيادات الإدارية في ميدان الأعمال والخدمات الاجتماعية بأن يجعلوا من التدريب رسالة قياديه ومسؤولية لا مجرد إجراء إداري أو نشاط روتيني، بل ويتحوّل إلى ثقافة مؤسسية وممارسة يومية تعكس إيمانهم الحقيقي بأن الإنسان هو الأصل، وأن الاستثمار فيه هو أعظم استثمار يمكن أن تقدّمه لمؤسستك ومستقبلك ومجتمعك.