زهايمر مؤقت
يقول أحد الأصدقاء وهو يضحك على نفسه قبل غيره:
لم أكن أتصوّر أنني سأُصاب بنوبة ”زهايمر مؤقت“ في يومٍ من الأيام!
كنتُ في صغري أرافق والدي إلى المناسبات الاجتماعية: زواج هنا، عزاء هناك.
وما إن نهمّ بالمغادرة حتى يبدأ أبي في رحلة البحث عن حذائه المفقود بين الأحذية المتراصة كقطع الفسيفساء.
كنتُ أتنفّس ضيقًا وأقول له بنفاد صبر:
— «أيعقل يا أبي أنك نسيت أين وضعت حذاءك؟!»
وكان أبي يبتسم بصمتٍ، تخفي وراءها ملامح حزنٍ لم أكن أقرأها آنذاك.
ومضت الأيام… حتى جاء اليوم الذي جعلني أراجع كل شيء.
حضرتُ مناسبة مزدحمة بالناس، خلعتُ حذائي ووضعته في ”الكاشوان“ بكل ثقة الرجل المنظّم.
دخلتُ القاعة، تبادلتُ الأحاديث، وألقيتُ التحايا، وانشغل ذهني بمشروعات العمل وبما سأفعله بعد المناسبة.
وعندما حان وقت الانصراف… خرجتُ من القاعة منتصرًا على الزحام، فإذا بي أتوقف فجأة.
نظرتُ حولي مرتبكًا، كمن فقد ذاكرته في لحظةٍ عابرة:
— «أين وضعتُ الحذاء؟!»
بدأتُ أفتّش بعينيّ في كل رفٍّ، أقترب من هذا الكاشوان وذاك، ولا أثر!
جاء أحد الأصدقاء وسألني بابتسامة ماكرة:
— «ما بك واقف؟»
قلتُ متنهّدًا: «نسيت أين وضعتُ حذائي!»
ضحك وقال: «يبدو أنك أُصبتَ بالزهايمر المبكّر يا رجل!»
ثم جاء آخر وسألني نفس السؤال، فقلتُ وأنا أحاول إنقاذ ما تبقى من هيبتي:
— «لو أنهم وضعوا أرقامًا على الكاشوان لما حدث هذا!»
وبعد جهدٍ جهيد… وجدته أخيرًا، كمن عثر على كنزٍ ضائع!
وفي تلك اللحظة لم أضحك فقط… بل تذكّرت أبي.
تذكّرتُ صمته حين كنتُ أعاتبه، وتذكّرتُ نظراته التي كانت تقول لي دون كلمات:
«ستفهم يومًا يا ولدي… حين تضع حذاءك في غير مكانه.»
عدتُ إلى البيت وأنا أبتسم من الموقف، فوجدتُ أبي وكأنه يبحث عن شيءٍ ما.
سألته بلطف:
— «عن ماذا تبحث يا أبي؟»
أجاب مبتسمًا:
— «منذ نصف ساعة وأنا أبحث عن نظّارتي، علماً أنني أرى جيدًا!»
ضحكتُ وقلتُ له وأنا أضع يدي على كتفه:
— «يا أبي… هذه نظارتك، أنت تلبسها!»
ضحكنا سويًّا، وقال لي وهو يهزّ رأسه:
— «ها قد فهمتني يا ولدي… بعد كل تلك السنوات.»
وهكذا أدركت أن الزهايمر الحقيقي ليس في الذاكرة… بل في نسيان فضل الوالدين.
همسة تربوية
كن رفيقًا بوالديك، فمشاعرهما أغلى من عتابك عليهما؛ فالأب لا يؤلمه نسيانه بقدر ما يجرحه قسوة ابنه عليه.