عالم بدون صوت

الأستاذ / فوزي صادق *

عصراً .. كنت وأهلي نتبضع  أو بالمعنى الأصح نتمشى بالمول الكبير .. خطوات ثم  خطوات، حتى حرقنا  سعرات الغداء ، كان السوق مزدحماً  ( كالمحشر ) ، وكأن الناس تهرب وتستنجد ببرودة المول هرباً من هواء الشارع الحار والرطب، ضجيج وازدحام ، حتى كاد الناس أن يتلاصقوا ، وحتى كاد ينفذ الأوكسجين ، وإلي أن حانت  ساعة الذورة المنتظرة ( العشاء بعد صلاة  العشاء ) واصطفت الألوف صفاً صفاً  لتملأ بطونها بعد مشي طويل مضني ، والكل يتزفر  ويئن من آلم الانتظار الطويل  ( مواجهة الجيش خير من مواجهة العيش )  ، أنا بدوري رفضت الأكل في هكذا وضع، وبدأ الجدال والنقاش بين العائلة ، حيث لا كراسي تـنفسنا الصعداء ! ولا طاولة تلم شملنا !  فأخذنا دوراً كباقي الموجودين .. حتى تنتهي عائلة ونحل مكانها ، وإذا برب أسرة كان بالجوار،  وقد فقد صبره من الانتظار ، فصرخ وقال :  من يتنازل عن طاولته وأعطيه خمسين ريالاً !  ( لم يجبه أحد ) . بمحض الصدفة ( بقانون رب صدفة خير من ألف ميعاد ) شاهدته مع أهله ومازال الابتسامة في وجهه ! إنه الأصم الذي كنت أراقبه في حارتنا أيام الطفولة، هاهي تضاريس وجهه الضحوك لم تتغير مع تغير الزمن ، وابتسامته لم تفارق محياه منذ أول مرة رأيته فيها، كان الرجل الأصم مشهوراً بحارتنا  ، كان يوزع علينا الابتسامات بمجرد مروره أمامنا ونحن نلعب ، وكذلك عند رجوعه وجلوسه أمام عتبة دارهم .

خمنت فتيقنت إن الصبية الذين معه هم أبناءه ، الحمد لله ، لقد تزوج الرجل الأصم ، فقلت أذهب والقي عليه التحية كي يتذكرك ، فتوجهت نحوه،  وبمجرد أن رآني أعطاني الأحضان والقبلات ، وكأنه شاهد عزيزاً مفقوداً . المشكلة التي واجهتني، أني لا أفهم لغة الإشارة ، فساعدتني السيدة التي كانت معه (  زوجته ) ، وبعد دقائق معدودة  رجعت إلي أهلي، وحتى جاء الفرج الوقتي وحصلنا أخيراً على مكان شاغـر. عيوني مازالت ترصد تحركاته ، أنا مستغرب من ابتساماته الكبيرة ، والتي يوزعها على من حوله ، إنه ينظر للحياة بابتسامة غير طبيعية ، لكن كيف ؟

أوووه !! تذكرت وعرفت لماذا وكيف يوزع أبتساماته على  الجميع ، ( إنه أصم ) والأصم لا يسمع الأصوات التي من حوله ، إذاً هو لا يسمع الإزعاج ، ولايعرف طعمه وتأثيره على آذانه، وهذا مانعاني منه  الأن في المول المزدحم المزعج ، وكأن الطبلتين تودان الانفجار ، نحن والله في خلطة مركبة من ( أصوات الناس وصوت الألعاب وصالة التزلج وزبائن المطعم وصراخ الأطفال وأجهزة الألعاب ، إضافة إلي صراخ ابني الذي يريد وجبة  الجانك فوود ).

برهة أرمق المارة وأخرى أرمق ابتسامته ، وأقولها دون خجل ( الدموع وقفت في عينيّ ) عندما تيقنت الحـقيقة المرة التي يعيشها هذا الرجل : ( إن صاحبنا لم يستمع قط  للراديو أو التلفاز ! إنه لا يعرف ولن يعرف بما يجري حوله .. هو لا يعرف معنى مصطلح ( إزعاج أو ضوضاء ) ، ولم ولن يشعر بما يقال في الأخبار اليومية ، كما يجري في حصار غزة واقتتال أفغانستان والمشردين من فيضانات باكستان ومآسي العراق وحرائق روسيا وأوكرانيا وانفصال جزيرة جرين لاند ، واتساع ثقب الأوزون ، وحتى لو شاهد بأم عينيه صورة أو مشهد ( محمد الدرة ) ، فهذا لن يؤثر كما نحن نواجه مع أصوات وصرخات الثكلى من الأطفال والنساء.. ولن أنسى كذلك ، إنه لا يسمع ثرثرة زوجته عند رجوعه من عمله ( مع احترامي لكل الزوجات في العالم ) ، وصرخات أبنه الصغير المريض ! وابنه الكبير الذي يريد شراء جوال جديد ! وإزعاج أبواق السيارات وصفارات سيارات طوارئ النجدة اليومية . إذاً وأعيدها إذاً ( كل الأصوات من حوله في ضع الصامت Mute  ) ، إنه كمن يعيش داخل صندوق زجاج عازل للصوت مائة بالمائة ، آه آه .. بادرني سؤال حيرني ، هل هو سعيد بوضعه ؟ أم العكس ؟  ربما ( نعم ) ويبتسم لنا كإنعكاس لما يدور داخله من وناسه ، أو ربما ( لا ) ، هو حزين ويعـوض حزنه بابتسامات مقنعه ( تعوضه النقص ) ، لأنه بمعـزل عن الحقيقة المرة ، وهي  عالم بضوضاء ( وجنة من غير ناس ما تنداس )  .

روائي وباحث اجتماعي