الكلمة الطيبة: بين منطق القوة وقوة المنطق «2»

السيد إبراهيم الزاكي

الكلمة القاسية والعنيفة في التخاطب والحديث، لها بالغ الأثر الشديد في نفس الإنسان المتوجهة ضده، فهي تجرح كرامته وكبريائه وإنسانيته، فتترك في نفسه ضرراً وجرحاً معنوياً غائراً يصعب أن يندمل، وهو ما يؤدي بكل تأكيد إلى التنافر والتباعد والتباغض.

والكلام هو أداة التواصل والاتصال بين الناس، واللغة التي من خلالها يُعبّر ويُفصح بها عما يجيش في الصدر من مشاعر وأحاسيس، تعبر وتفصح عن قيمة ومستوى المتكلم وما تمثله شخصيته من صفات خيرة وحسنة وطيبة في النفس، أو ما تحمله من صفات سيئة وشريرة ومبتذله. ومن الطبيعي والحال هذه، أن ما يقوله المتكلم سيكون له أثره ووقعه الحسن أو السيئ على المستمع والمتلقي.

إن وجهة ومسارات كثير من الأمور في هذه الحياة تحددها لغة الإنسان وكلامه، فالكلام الطيب والخير والمهذب، عندما يخرج من لسان شخص دمث الخلق، يراعي مشاعر الآخرين ويحترمها، يجد في الطرف المقابل من يسمعه ويتقبل منه ويصغي له، عندما يريد توجيه النصح أو اللوم أو العتاب. أما ذاك الذي يقسو في الكلام ويختار ألفاظا فضه وجارحة، فإنه لا يجني إلا الضغائن والأحقاد في النفوس، تنتفي بسببها الأجواء والمناخات المناسبة لخلق حوارات تنتج تفاهمات مشتركه، من أجل مصلحة الأفراد والجماعات أو المجتمع، ومن اجل انتظام مسيرة النظام الاجتماعي العام.

عندما نعتب ونلوم هذه اللغة الفظة والقاسية والجارحة، فإن ذلك لا يعني بكل تأكيد تكميم أفواه الناس ومنعها من الكلام، أو أن يقف الإنسان أمام الأخطاء والانحرافات موقف المتفرج الصامت عن الكلام وإبداء الرأي في ما يسمع ويرى، بل على العكس من ذلك، فواجبه يحتم عليه أن يأخذ بزمام المبادرة ويجهد نفسه ويتصدى بكل حزم وجرأة لكل ما هو سلبي ومنحرف عن جادة الصواب، من أجل إظهار الحقيقة، وإحقاق الحق، ورد الباطل.

لكن الجرأة والحزم والصلابة هنا، لا تعني الخروج على ما هو متوارث عليه من تقاليد وعادات وطباع وقيم أخلاقية حميدة، والإستقواء بلغة الشتيمة، والتراشق بالكلمات النابية والسباب والتسفيه والتوبيخ والإهانة، أو استباحة كل ما هو محظور من كلمات وتعابير مؤذية ومهينة، لا تزيد إلا في تعميق الشرخ والانشقاق بين الناس، ولا تؤدي إلا إلى الخصام والقطيعة، أو الفتنه في بعض الأحيان.

ممارسة النقد والسعي إلى كشف الأخطاء والانحرافات في أي مجتمع، لهو أمر واجب وضرورة إنسانية من اجل حياة المجتمع واستقامة أفراده، وهو حق طبيعي لكل الناس، وغير قابل للمساومة والتحريف، إلا أن المهم أن يكون هذا النقد موضوعيا، وبعيدا عن الشخصنة، والنزاعات والخلافات العصبوية، كما يعبر عن ذلك السيد فضل الله بقوله "إنّنا في الوقت الّذي لا نرفض منطق النّقد لكافّة القيادات الدّينيّة وغيرها، إلا أنّنا نريد لأيّ نقد أن ينطلق بروح علميّة موضوعيّة خالية من العصبية وعقلية الثأر، فلا تقديس لمن ليس بمقدّس من جهة، ولا إسراف في النقد يخرج فيه مطلقه عن الآداب الإٍسلاميّة العليا، وقد قال تعالى في كتابه الكريم:﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ، فكيف يكون الحال بالنّسبة إلى أهل القرآن؟"[1] 

إنه لمن المهم أن يختار المتكلم عند الحديث والتخاطب ألفاظه بعناية، وينتقي كلماته المعبرة والهادفة بدقه، بعيداً عن زلاّت اللسان وهفواته، والتي لا تؤدي إلا إلى زرع الضغائن وإيغار النفوس. فالكلمة الطيبة لها مفعولها عندما تقال، ويكون وقعها على النفس أفضل من أي كلمة نزقه متوترة تخرج من شخص متوتر يدفعه غضبه وانفعالاته على الخروج عن الموقف الحكيم والمتوازن.

الكلام والتخاطب والحوار بين الناس له انعكاساته الاجتماعية والحياتية والسياسية، ومؤشر إلى قوة ومتانة الترابط والاندماج والتماسك الاجتماعي أو العكس، لذلك فإن ما يقال وما لا يقال من كلام في التخاطب والحديث، له وقعه وتأثيره على المتحاورين. فإذا كانت الكلمة المنطوقة خارجه من القلب طيبة وحميمية، فإن مكانها مباشرة إلى القلب. إلا أن الحقيقة على صعيد الواقع، أن لغة التخاطب في كثير من الأحيان، تتجاوز المعقول وتقفز على الحد المقبول، فنجد إسفافاً في لغة الحوار، وخروجاً عن القيم والتقاليد المتعارف عليها، وخروجا عن الفضيلة والخلق القويم، تنزلق بعدها الأمور في مسارات لا تحمد عقباها. فكم هم هؤلاء الذين إذا تخاصموا واختلفوا، تجدهم يتساببون ويتلاعنون ويتبادلون أخس الشتائم وأخشن الكلمات، ويتجاوزن في الكلام المحظورات دون حرمة لأي شيء؟

إن للكلام المنطوق تأثيره وأهميته في تماسك المجتمع وترابطه، "فالكلام يتوقف عليه كثير من عوامل تماسك المجتمع وترابطه، وبتالي فلا ينبغي أن يطلق الكلام على عواهنه دون إدراك لوقعه وتأثيره على من سيقع على مسامعه، ويجب أن تخرج الكلمة من القلب، مروراً بالعقل، قبل أن ينطق بها اللسان، ولكن ما يحدث في بعض الأحيان بين الناس يتجاوز هذا الإطار، فنجد تدنياً ملحوظا في لغة الحوار، وخروجاً غير مبرر عن كثير من القيم والتقاليد والآداب العامة، ناهيك طبعاً عن القيم الدينية التي تحثنا دائماً على التزام الفضيلة والخلق القويم. يقول تعالى: ﴿ ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ".[2] 

إنه لمن المؤسف أن يحدث هذا التدني في لغة التخاطب والحوار، ليس فقط بين الأبعدين والمختلفين الذين لا تربطهم علاقة وتواصل، وإنما تحدث أيضاً بين الأقربين من الأهل والأصدقاء والزملاء والأزواج، عندما تأخذهم مجريات الحديث وتداعي الكلام إلى تعقيد البسيط وتكبير الصغير، لتتحول بعدها الأشياء الصغيرة إلى مشكلات كبيرة تستعصي على الحل، خاصة بعد أن يكون الكلام الجارح قد نال من النفوس الكثير.

إن عنف الكلمة، كما يقول الكاتب البحريني حسن مدن، "لا يتجلى فحسب في حقل السياسة وحقل الفكر وحدهما، وإنما في حقل العلاقات الإنسانية المباشرة، بين البشر الأفراد أنفسهم، حين يمكن لكلمة واحدة أن تبدو جارحة، حادة كحد السكين في إلحاق الأذى بمن توجه له، وأن تكون من النفاذ بحيث تذهب بعيداً إلى عمق روحه، وأن تكون مؤذية بحيث أن المرء بحاجة لوقت ولجهد كي يحتوي أثرها المدمر في النفس".[3] 

يتبع...

[1]  - بيان حول السجالات المذهبية بين المسلمين/ السيد محمد حسين فضل الله- موقع بينات.

[2]  - أدب الحوار / تهاني تركي – جريدة الخليج الإماراتية.

[3]  - لغة للحوار وأخرى للعنف / حسن مدن – جريدة الخليج الإماراتية.