الشيعة في الخليج - 4 -

   لا توجد قرية أو مدينة شيعية في الخليج إلا ولها حضور في إحياء ذكرى أربعين الحسين بن علي عليهما السلام في مدينة كربلاء المقدسة، بالإضافة إلى حضورهم إليها في ثلاث مناسبات أخرى وهي: الزيارة الشعبانية في منتصف شهر شعبان، زيارة عرفة في فترة الحج، وزيارة عاشوراء في العشرة الأولى من شهر محرم، ناهيك عن الزيارات المستمرة طوال العام كفترة الإجازات وعطل المدارس وغيرها. وقد عاد الخليجيون خلال السنوات الأخيرة للاتجاه نحو شراء وبناء مساكن وفنادق تخصهم في مدينتي كربلاء والنجف.
   هذا الحضور المتزايد سنة بعد أخرى، تجاوز العام الماضي 350 ألف زائر من الخليج، يقال أنه بلغ هذا العام نصف مليون، يخشى شيعة الخليج من تحول كثافة هذا الحضور، مع الزمن، إلى اتهامهم بالولاء للعراق كما اتهمتهم دولهم ومجتمعاتهم المحيطة بهم بالولاء لإيران خلال العقود الثلاثة الماضية، لأن تهمة "اللا وطنية" جاهزة دائماً، خاصةً مع وجود الحالة الطائفية وصراعاتها في الخليج والإقليم، لاسيما على مستوى الإعلام العربي، بينما يعتقد الشيعة في الخليج بأن حضورهم في العراق لا يعدو عن كونه مشاركة وجدانية عقائدية مرتبطة بوجود مقامات أئمتهم عليهم السلام في العراق، وهو أمر لا يخل بوطنيتهم قيد أنملة مطلقاً...
   أصبحت اسطوانة التشكيك في وطنية شيعة الخليج مشروخة، ومطعونٌ في صحتها بكثرة الحقائق المناقضة لها. فلا يوجد شيعي خليجي واحد يرغب أو يميل للعيش في بلد أخر مهما أعطي فيها من مغريات، ناهيك عن تشبثه الواضح للبقاء في مدينته التي ترعرع بين جنباتها، بل حبهم لأوطانهم دفعهم للذود عنها والدفاع عنها خلال جل تاريخهم السياسي رغم ما قدمه لهم البريطانيون وبعدهم الأمريكيون خلال القرن الماضي كله من مغريات وعروض. لم يساوم شيعة الخليج على ولاءهم لأوطانهم رغم ما عانوه من تعنت حكوماتهم تجاه حقوقهم المذهبية وتجاه حقهم في ممارسة طقوسهم وشعائرهم الدينية، بل معاقبتهم وتجريمهم على ذلك في أغلب الأحيان، ورغم ما تكبدوه من تهميش سياسي لواقعهم وحجمهم، ورغم ما لاقوه من تهوين وتكفير لفكرهم ومذهبهم من قبل دولهم، و من قبل التيار الديني السلفي المحيط بهم الرسمي والعام. وللعلم نقول: إن كل ذلك مدعاة، حسب العلوم السياسية والحقوقية المتطورة في هذا العصر، لقبولها كأسباب تبرر استعانة أي جماعة بغيرها للحصول على حقوقها المضطهدة بسببها. رغم ذلك لم يساوم شيعة الخليج على وطنيتهم باللجوء للعنف أو باللجوء لغيرهم طلباً للمعونة والنصرة على أحوالهم التي أرهقتهم عقود طويلة.
   شيعة الخليج هم جزء من النسيج الاجتماعي المكون للمجتمع الخليجي القائم، ولا يمكن لمدعِ أن يزعم بغير ذلك، بل هم جزء من المشهد التاريخي العريق لأوطانهم. لهم مساهماتهم الجلية في بناء أوطانهم اقتصادياً وسياسياً وأمنياً واجتماعياً وتنموياً، فلا توجد دولة خليجية واحدة إلا وكانوا مؤثرين في استقرارها ورفعتها، ولو أتيحت لهم الفرصة لكانت إسهاماتهم أكثر جلاءً ووضوحاً...مشكلتهم الحقيقية تكمن في كونهم جزء من واقع عربي لم تكتمل فيه عملية نضج مفهوم الدولة الحديثة التي تقوم على المساواة بين المواطنين دون تمييز بين هوياتهم الثقافية والدينية، الدولة التي تقوم على مفهوم "المواطنة الصالحة" ومفهوم "المواطنة الدستورية"، لا الدولة التي تقوم على أحادية الفكر، وعلى تهميش المختلف عن قناعاتها وجماعتها، بل تقوم أحياناً على عدم الاعتراف بوجود طوائف وهويات ثقافية وفكرية متعددة تحت رايتها وفوق أرضها، وهو أمر نسبي ومختلف بين دولة خليجية وأخرى.
    يتمنى شيعة الخليج من دولهم ومجتمعاتهم المحيطة بهم أن يتفهموا الحالة القائمة والقادمة بين شيعة الخليج وشيعة العراق. قد يزداد حضور شيعة الخليج في العراق خلال السنوات القادمة بشكل أكبر من حضورهم في إيران، لأن مقامات أئمتهم في إيران أقل بكثير، من حيث العدد، من مقامات أئمتهم في العراق. قد تكون اللغة العربية الجامعة بين شيعة الخليج وشيعة العراق تقلل من مصاعب التعاطي لغوياً مع شيعة إيران. من جهة أخرى ارتباط شيعة الخليج، في هذه المرحلة، بمرجعية أية الله السيد علي السيستاني حفظه الله، كمقلدين، سيضفي بظلاله على ميلهم للتعرف عليه عن قرب والتزود من إرشاداته الدينية، ولهذا الارتباط امتداد تاريخي طويل يحكي عن مدى ومستوى العلاقة الوثيقة بين شيعة الخليج والحوزات العلمية وعلماءها في النجف وكربلاء. هناك دائماً، رغم ظروف تاريخ العراق المتقلب، حضور جلي لطلبة العلوم الدينية من جميع دول الخليج في هاتين المدينتين. ويحكي تاريخ العراق والخليج حضوراً منبرياً متبادلاً للخطباء يخضع للمد والجزر حسبما تمليه الظروف السياسية في الضفتين. فهل تتقبل دول الخليج وتتفهم الصورة القادمة؟... نأمل ذلك.
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
علي
[ أم الحمام ]: 5 / 2 / 2011م - 5:41 م
شكراً يا أبا أحمد..
كاتب وباحث