للعقلاء فقط !!

 

  إنّ إحترام العقل يستوجب عدم التدخل العاطفي في ميدان عمله ، وعدم إرباك حركته الفكرية بالميول والإنفعالات ، وإذا كانت العواطف والأحاسيس تسعى لفرض هيمنتها على شخصية الإنسان ، فإن عليه اليقظة والحذر حتى لا تتغلب عواطفه على عقله فتقوده إلى الخطأ والإنحراف لا سمح الله .

إنني أعلم جيداً - كما أنتم تعلمون -  بأن الموضوعية والتجرد في التفكير مهمة شاقة ، لما للعواطف والأهواء من دور ضاغط ، وسلطة فوقية ، وتأثير عميق ، ولكن المطلوب من الإنسان الواعي ، التسلح بالإرادة الكافية للإنتصار لعقله ، وإنّ من مهام الدين الأساسية رفع معنويات الإنسان ، وتصليب إرادته ، في مقابل الأهواء والعواطف ، حتى يتعامل مع أي فكرة أو موقف بموضوعية وتجرد ، دون إنحياز أو قرار مُسبق .   
 
 ويقول جوزيف جاسترو (1863-1944) عالم النفس الأمريكي ، والكاتب الذي كان حاسما في التحليل والبحث النفسي  ، في شأن التحيز وإتباع الهوى : " إنّ الهوى هو الحكم على شيء ما مقدماً ، وفي أثناء الإستدلال يجعلنا نتجاهل بعض الحقائق ، ونبالغ في تقدير بعضها الآخر ، ميلاً منا نحو تحقيق نتيجة معينة هي في ذهننا منذُ البداية

 من هذه الرؤية - مع الأسف - ينطلق البعض بقصد الإصرار والترصد ، فيبدأ في إطلاق الأحكام الجائرة التي تتوافق مع هواه ، وتنسجم مع ما يدور في خلده ، ويحقق له الرضا الزائف ، ويُشعره بنشوة الأفضلية المُغتصبة على سواه ، فيبدأ في تضخيم الصغائر ، ومحاكمة الضمائر ، ناصباً كل فخاخ التأويل ، والتعميم ، والتشويه ، والتحريف ، و ... ، من أجل بلوغ غاياته الملوّثة ، واضعاً مصلحته الهامشية أولاً على أم المصالح المتمثلة في الحفاظ على أمن المجتمع وإستقراره ، وتماسك نسيجه ، وتجسيد الشعور " بالنَّحن " لا سيما في وقت الأزمات مهما كان حجمها صغيراً أو تافهاً، فهذا الشأن لا يحتمل المِزاح . 

 لست أدري ما الذي يدفع البعض لإستحسان تغييب الوعي والإستسلام للعاطفة البلهاء وتجاهل الآثار الإستراتيجية السيئة المترتبة على هذا السلوك الغير مسؤول !! ولست أجد تفسيراً منطقياً كذلك لحالة الإندفاع التي يتصف بها هؤلاء " البعض " في التعاطي مع الأحداث !! إنما ما أعلمه جيداً إنّ من أسباب ذلك هو " التعصب الأعمى " الذي يمنح لصاحبه المهارة الفائقة للإتيان بكل ما هو سيء وجدير بالجدارة إلاّ ما يتعلق بـ " الوعي " وهنا تكمُن الّطامة الكبرى .  

 هناك بالتأكيد من لا تسره حالة الوفاق والإنسجام الإجتماعي ، وتغليب المصلحة العامة على المصالح الفئوية الضيقة ، فتراهم رأس حربة في كل زاعقة وناعقة لا سيما في المعارك الناعمة التي تتم عبر الشبكة العنكبوتية حيث يتسنى لهم التخفِّي وبث سمومهم في كافة الإتجاهات وهم لا يعلمون حتماً أنهم بتلك الممارسات الخاطئة إنما يُدمِّرون نسيجهم العاطفي أولاً ، ويُفسدون في جهل مُركّب الطبيعة السّمحة التي أنعم الله بها عليهم منذُ أن بصرت عيونهم النور ، فيُساهمون بسخاء قد إعتادوا عليه في تعميق حدّة المزاج العام من حولهم ، " وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعا " ، والأمر ليس كذلك على الإطلاق ، إنما فقط عند " العقلاء " حسبي . تحياتي .


 تأبى الرماحُ إذا إجتمعن تكسراً     وإذا إفترقن تكسّرت آحادا

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 4
1
فائق المرهون
[ القطيف - أم الحمام ]: 8 / 6 / 2011م - 5:49 م
الأستاذ ابراهيم / وفقه الله
لعل التداخل بين ما هو عقلاني و عاطفي , من أعتى المشكلات التي ترافق حياتنا الإنسانية و العملية في آن , وبالخصوص موقع المسؤولية و السلطة ففيه تتكون صاحب قرار إما يغلب عليه العقل وتحيد بالسفينة أو تغلبك العاطفة فتجنح بها نحو المياه الضحلة !
ولكن هل هي صوابية حقا سحق العاطفة جانبا في اتخاذ كافة القرارات , خصوصا التي تمس مشاعر الناس منها ؟
و ألا يمكن تنظيم المواقف الحياتية بين القلب والعقل ؟
عزيزي / الحروف كعادتها تشكر لك خوضا جميلا فيها , برحت جميلا فيها .
2
منى حبيب الرضوان
[ السعودية - الدمام ]: 10 / 6 / 2011م - 1:10 ص
استاذي أنت تتحدث كارثة " الأنا الأعلى" التي بموجبها تتأصل إنكار المصالح العامة وتتشابك خطوط الذرائع والرغبات لتتشكل كومة قبائح تتدحرج لتصتدم بالنسيج العام وتدمره .... التعامل مع الفكرة المشتركة للمصالح العامة بحاجة لإستقلالية من عبثية الهوائية والمزاجية الذاتية .. تقبل تحياتي
3
ابراهيم بن علي الشيخ
10 / 6 / 2011م - 10:01 ص
الأخ الموفق الأستاذ : فائق المرهون
أتفق معك فيما ذهبت إليه من ضرورة الجمع بين نهري العقل والقلب لتحقيق التوازن ، ولكنني آثرت تناول ( عبيد العاطفة ) من أجل النقد والمعالجة ، كما أن للمد العقلي الجامد عواقبه الوخيمة . دام توازنك الذي ينير جوانب شخصك الودود .
4
ابراهيم بن علي الشيخ
10 / 6 / 2011م - 10:08 ص
عزيزتي الفاضلة : منى حبيب الرضوان
أبعث لك التهنئة الخالصة على إسلوبك الأنيق ، الذي أراهُ قد إرتدى حلّة قشيبة من الوعي العميق بطبيعة الذات البشرية ، فأضفى الإبداع على المعنى ليوقظ سبات الطامعين . فلك مني ( أختي الكريمة ) المودة والتقدير .
إستشاري سلوك وتطوير موارد بشرية