للتنوير ثمن باهظ

 

في عصر ثقافة المأكولات السريعة، يروق للبعض أن يستصحب هذه الثقافة في مجالات الحياة المختلفة، فيعتقد أن النجاحات مثلا تتحقق في ظرف زمني سريع، وأن الإنجازات الكبيرة تمت دون مشاكل أو عقبات تذكر، غافلا عما يحدث في عالم الواقع. وربما كان لالتصاق الأجيال الحديثة بالعالم الافتراضي مدخل في عملية الاستصحاب المذكورة.

عندما ننظر إلى أوروبا اليوم وقد دخلت عصر ما بعد الحداثة دون أن نقرأ الفصول السابقة في الرواية الأوروبية، فإن المشهد سيكون مبتسرا وقاصرا عن تقديم الصورة الحقيقية لعملية التحول التي تمت هناك وأوصلت أوروبا إلى اللحظة الراهنة.

لقد دفعت أوروبا ثمنا باهظا لانتقالها من عصر إلى عصر، وقدم فلاسفتها ومثقفوها الكثير من التضحيات حتى انتقلت من عصر القرون الوسطى إلى عصر النهضة  والإصلاح الديني إلى عصر التنوير، فالأمر لم يحدث فجأة وبدون ثمن، بل استغرق عدة قرون وتطلب جهودا مضنية واستعدادا لبذل الغالي والنفيس، لأنه كما يقول العرب ويفعل الغرب ( ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر ). ويكفي في هذا المجال أن نقرأ ما فعلته محاكم التفتيش طيلة خمسة قرون تقريبا من جرائم بشعة في حق الناس بحجة محاربة ما سمي بالهرطقة، والذين يعنون به الانحراف ولو اليسير عن العقائد المسيحية الرسمية، حيث كانوا يأخذون الناس على الظنة والتهمة ويذيقونهم سوء العذاب الذي ينتهي بالقتل حرقا في أحيان كثيرة. من يصدق أن أوروبا هذه حاكمت العالم الإيطالي ( جاليليو ) لأنه قال بأن الأرض تتحرك خلافا لما هو في الكتاب المقدس؟! من يصدق أن ملك فرنسا لويس الرابع عشر ( 1638- 1715 م ) قرر تطهير فرنسا الكاثوليكية من البروتستانتيين تحت شعار: مذهب واحد، قانون واحد، ملك واحد؛ وارتكبت في سبيل تحقيق ذلك الجرائم الفظيعة التي يندى لها جبين الإنسانية من حرق بالنار أو ربط بالحبال وتغطيس في الآبار حتى الموت أو تغيير المذهب؟!. من يصدق أن الملايين ذهبوا نتيجة حرب الثلاثين عاما ( 1618-1648 م )  بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا؟!

الطريق إلى التنوير في أوروبا لم يكن ممهدا بالورود ومحفوفا بالرياحين، وإلا لسلكه كل سالك. على العكس من ذلك تماما، واجه التنويريون أعتى تحالف غير مقدس بين السلطتين الدينية والزمانية، أي بين الكنيسة والبلاط، ودفعوا بكل وعي الثمن الذي كان ينبغي عليهم أن يدفعوه، وكانت النتيجة أن أصبحت الجماهير أكثر إحاطة بأبعاد تخلفها ومأساتها ولحظتها الراهنة، وأكثر استعدادا للتضحية في سبيل الحرية والانعتاق والخلاص. لقد تغير الواقع الخارجي بعد أن تمكن النهضويون والتنويريون من إحداث التغيير المطلوب في نظرة الإنسان لذاته وخارجه، فتبدل لاهوت القرون الوسطى بلاهوت جديد، وحلت مفاهيم النزعة الإنسانية وحقوق الإنسان وغيرها مكان النزعات العصبية الضيقة.

عندما نقرأ في سيرة التنوير في أوروبا سنرى أنها ازدحمت بالكثير من أسماء الفلاسفة والعلماء والمثقفين مثل بيترارك وإيراسموس وفرانسيس بيكون وديكارت ولوك وديدرو وروسو وهيغل وكانت وغيرهم، أما عندما نقرأ سيرة الثورات العربية فلا نجد فلاسفة ولا يحزنون. فأين الخلل؟ وهل سيؤثر هذا على ديمومة  الثورات التي نجحت في استبدال نظام بنظام؟ أعتقد أن الأمر أعمق من ذلك بكثير.  

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
فائق المرهون
[ القطيف - أم الحمام ]: 27 / 6 / 2011م - 8:10 م
الأستاذ بدر / وفقه الله
يقول الشاعر العظيم :
تريدين إدراك المعالي رخيصة
ولابد دون الشهد من أبر النحل
بوركت كلماتك المتنورة , وحروفك الندية بالوعي واليقظة , في زمن ندر فيه اليقظ !
تساؤل خطير الذي طرحت , ألا وهو غياب المفكرين والفلاسفة عن الثورات العربية أسوة بالثورات الأوروبية , ولاشك أن ثقافة الخوف و القمع لا زالت مسيطرة على نفوس الكثير من مثقفينا أو أن الأيدولوجيا و المصالح الخاصة والنفعية تسيطر على الكثير منهم ببالغ الأسف .
أعتقد بتواضع أن هذا الغياب لا يعني العدم ... فأدونيس و برهان غليون و علاء الأسواني و مضاوي الرشيد و غيرهم , و إن لم يرقوا لمستوى فلاسفة ,فديمومتهم الحركية تقارع آلة القمع و التسلط .
رعتك يده الحانية .
2
بدر الشبيب
[ أم الحمام ]: 28 / 6 / 2011م - 9:24 ص
الأستاذ فائق المرهون / أعزه الله
السلام عليكم
طابت كلماتك وأشرقت رؤاك.
مما لا شك فيه أن هناك الكثير من المثقفين الملتزمين بقضايا الإنسان وحقوقه والمقارعين للظلم والاستبداد. ولكني أظن أننا لا زلنا نشتكي فقرا في الفلسفة السياسية وكتاباتها. وهو جانب مهم يجعل الثورة على بصيرة من خطواتها ومستقبلها.
رعتك عين الله أينما كنت.
شاعر وأديب