آخر الحكايا

 

استيقظ الجميع مبكراً، فالخبر في بيت العائلة سرعان ما ينتشر، كان الأطفال رغم تعبهم وعدم اكتفائهم بساعات النوم أشد حماسة ذلك اليوم، الكل قد تسلم مسؤولياته، هذه أخذت بتزيين فناء المنزل، وذاك مع جدته يرتب غرفة الاستقبال، وآخرون توجهوا للسوق لتلبية حاجيات العائلة. منظرٌ بدا فيه منزل أبي حسام كخلية النحل‫.‬

و في زخم العمل المتواصل، توقف الجميع فجأةً لاستقبال المولود الجديد، و وسط نظرات الترقب أزاحت الأم المتعبة العباءة عن طفلها علاء وهي تضمه بكلتي يديها. بدأت بعدها مراسم الفرح والسرور في ذلك البيت‫.‬

انطوت سنوات العمر، وعلاء ينمو ويشتد عوده سنةً تلو الأخرى. و في بيت جده قضى أجمل الأيام؛ فقد كان في نظر الطفل أنه أكبر بيتٍ قد رآه في حياته‫.‬

بيتٌ عربي، توزعت الغرف على جنباته، طابقان كانا يجمعان كل أفراد العائله، مزداناً بمزرعةٍ صغيرةٍ في وسطه كان يرعاها الجد العطوف‫.‬

أما أنا، فقد كان الطفل الصغير يسند ظهرهُ عَليّ في نهاية كل يومٍ بعد لعبه مع الأطفال؛ يستند على جذعي ليحكي لي مغامراته تارةً، ويشكو ضرب أحدهم له تارةً أخرى، لم يترك عادته هذه حتى ليومٍ واحد‫.‬

كبر علاء وأصبح شاباً حفلت سنواته الدراسية بأعلى الدرجات، وقد تخرج حديثاً من أكبر الجامعات بتقدير الممتاز مع مرتبة الشرف‫.‬

حماسةٌ كبيرةٌ كانت تعتريه، فبدأ مع أول صباح له بعد استلام وثيقة التخرج بالتواصل مع الشركات، المؤسسات و كل فرصة عملٍ تلوح له في الأفق، حتى بدأت تلك الحماسة تخفت وتخفت يوماً بعد يوم؛ فهذا كان يجيبه بالرفض، و ذاك يعده بالرد في أقرب فرصةٍ سانحه، و آخرون مكتفون، فقوائم الانتظار تستوعب الكثير وعلاء سيُذَيِّل القائمة‫.‬

انتهى به الحال في شركة صغيرة، وبمبلغٍ زهيدٍ جداً، ناهيك عن فترة التدريب التي سيتلقاها في الميدان تحت لهيب أشعة الشمس؛ فالوظيفة الجديدة لا تمتُّ لتخصصه الجامعي لا من قريبٍ ولا من بعيد‫.‬

بدأت تطلعات علاء تكبر، وبدا بيت جده يصغر ويصغر في نظره مع تقدم سنوات العمر، حتى انتهى به يومٌ وقد استند على جذعي يشكو همومه. إلا أنه كان مختلفاً هذه المرة؛ فلا يكاد يكمل جملةً إلا ويعقبها بأسفه و اعتذاره. كانت يداه تخطان على التراب حتى أخذ حفنةً منه وألقاها مرةً أخرى. حديثه اتسم بالغموض وحيرتي تزداد لكثرة اعتذاره، حتى فتح ورقة قد استخرجها من ثوبه، بانت ملامح تفاصيلها الباهتة، وأخيراً .. هي غرفة يخطط لاعمارها في وسط البيت، وحينها لابد من التخلص مني‫.‬

مرت على القرية أيامٌ باردةٌ ماطرة، وفي يومٍ استقبلت العائلة اتصالاً من المشفى، يخبرهم برحيل الجد أبي حسام بعد معاناته المريرة مع المرض الذي طالت مدته، خلا البيت من الأنفاس للحظة، أجهش بعدها الجميع بالبكاء، مسترجعين فيها أجمل الذكريات، أما علاء فقد هرول مبتعداً ليلقي بنفسه محتضناً جذعي ليذرف الدموع التي كان يحاول إخفاءها، فالرجال لا تبكي‫.‬

انتهت مراسم العزاء، عاد بعدها علاء حزيناً كئيباً، أنحلت الهموم جسده المنهك. تقدم نحوي بخطىً متثاقلةٍ ومتردده، لمحت في عينيه بريق الدموع التي ما إن مسحها بأطراف ثوبه حتى بان سراب أحلامه التي تلاشت، استند إلى جذعي وأخذ يحدثني بكلماتٍ يائسة: ولدتُ و أنتِ بيننا، كبرتُ و ظلال سعفاتكِ يداعبنا، كنتِ ملجأي في السراء والضراء، حلمتُ بيومٍ أودعكِ فيه و أنت عزيزةٌ غالية، غلبه الصمت لبرهة، قبض حفنةً من التراب و عصرها بين أصابعه بوجع، ثم أخذ يصرخ بألم: اليوم .. أنتِ العقبة، نعم أنتِ عقبة؛ فجدي أوصى بعدم المساس بك وعدم قطعكِ أو إزالتكِ مهما قست الظروف. أطرق برأسه و أخذ يُهمهم مكملاً حديثه‫:‬ و هذه آخر الحكايا بيننا ‫!‬

جمع رجليه ولف يداه حولهما، ثم وضع رأسه المثقل بينهما وغفى

أستاذ علوم .. خريج كلية المعلمين بالدمام