قصتي مع شانتي

 


قراءة نقدية الكاتبة | خولة القزويني

همسة : الرجل من صنع المرأة ، فإذا أردتم رجالاً عظماء علموا المرأة عظمة النفس وما هي

الفضيلة . ( جان جاك روسو )

إن الكاتبة كعادتها تبدأ قصتها بهمسةٍ تكون لها دلالة عميقة النظرة الفكرية حيث نجدها تسلط الضوء ناحية المرأة بكونها الأساس في صناعة الرجل العظيم من خلال تعليمها عظمة النفس البشرية و

الفضيلة .

إنها تأخذ القارئ بحرفيةٍ ليكون بكله في الحدث الدرامي وذلك حين جعلت من البطل ( محسن ) المعاق يتحدث عن نفسه و يطلع القارئ على معاناته واضعة الإيحاء سبيلاً لبيان بعض السلبيات التي تكتنف الأسرة وخصوصاً إن كان فيها ( معاق ) .

إنه لمن الوهلة الأولى قد يظن القارئ بأن ( الإعاقة ) هي الفكرة الأساسية للنص بينما نجد أنها قد أشارت إلى قضايا أخرى لها من الأهمية الكثير ..

المعاق :

إن الكاتبة تطرقت إلى مشكلةٍ مفعمةٍ بالحساسية ألا وهي ( المعاق ) ، المعاق الذي ضاع شخصه وفكره في هذا الازدحام المادي البعيد كل البعد عن الإنسانية والواجب لتراه عنصراً مهمشاً يقبع في زاويةٍ لا ترمقه العيون المبصرة إلا ما ندر ، ( كنت أدور في عربتي حائراً جزعاً أستنطق الصمت الموحش ) ، ( أذكرها بحجم إعاقتي يوم أن وعيت على ضعفي وأزمتي النفسية و أنا أصارع ذااتي المهمشة بالإهمال والتجاهل ) .

إنه المعاق من ينظر له البعض بعين الاستهزاء فتكن نظراتهم كسهمٍ قاتلٍ يخترق جسده ، هذا مؤلم والأكثر منه إيلاماً هي النظرات من أقرب الناس إليك وهم الأهل و الأقارب إن كانت نظرة احتقار ، ( تارة يتهامس الأطفال من حولي بإشفاق ، وتارة بتهكم ) .
قال الشاعر :
                         وظلم ذوو القربى أشد مضاضةٍ

                                                                  على النفس من وقع الحسام المهندِ

هي لم تنحني لعرض المأساة بأسلوب كلاسيكي وإنما اتبعت أسلوباً فلسفياُ يجعل القارئ يدخل في الحوار الذاتي ضمنياً محللاً الأحداث ليصل في نهاية المطاف إلى الحل المنطقي كنتيجة إيجابية  لهكذا وضع .

( لا زلت أبحث عن شبيهتا في دروب أسفاري ، في محطات حياتي ، سمرتها الداكنة كبقايا ليل الغربة ، وعيناها الغارقتان في بركتي حزن ، وشفتاها الناضبتان قد جفف الحرمان نداوتها فأفترتا عن ابتسامة ضنينة تشرق كشمس النهار في يوم غائم ) .

إنها تأخذنا لعالم الحزن المتدفق عبر كلمات لها عذوبة الماء فتتشربه النفس عناقاً لا ينفض يمتزج كلوحة خيوطها تجذبك إلى حد الثمالة لتكن أنت هو ولو لبرهة من الوقت .

إنها تشير على لسان البطل ( محسن ) إلى الخادمة ( شانتي ) عبر لغته في مناجاة فهي بمثابة استغاثة قلب أضناه كل ما حوله ليرى الراحة والأمل في لمساتها المكللة بالحنان ، ( وحدها من عرفت كيف تنقذني من مناخي القاتم وتخلق داخلي جنة سلام ، أطعمتني وسقتني شهد عاطفة بعمق الأرض وامتداد السماء ، لا زالت أصابعها النحيلة ذات الرؤوس المتشققة و أظافر متآكلة تخطر في ذاكرتي ، خصوصاً حينما أجوع فلطالما ألقمتني تلك الأصابع أشهى الطعام والتقطت نثاره المبعثر على ثوبي دون قرف أو ضجر ) ، ( شانتي مربيتي الهندية التي احتوتني أماً وطوتني بجناحي رحمتها وعطفها كقطعة من جسدها ، لا زال رحيقها يعبق في حياتي رغم مرور السنين ) ، إذاً هي أرادة أن تعطي ( الخادمة ) اللون الإيجابي مع أن الكثير من الأسر يشتكي من اللون السلبي لها وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن القبح ليس مطلقاً و إن الجمال ليس مطلقاً أيضاً . 

إن هذه المسألة لها من الرعب ما يقض المضجع حيث إن غياب الأسرة عاطفياً وعقلياً يفتح المجال للخادمة بأن تسقط ذاتها عاطفياً وعقلياً على الأبناء وهذا له سلبياته كما نجده في قصص أخرى .

هي تشير إلى المعاملة السيئة اتجاه الخادمة حيث إن بعض الأسر لا تتحلى بالإنسانية في معاملة الخادمة ضاربة التوجيهات الإسلامية عرض الجدار ، إن التعاليم الإسلامية أمرتنا بالرفق معهم ( الخدم ) ومعاملتهم بالحسنى فإنهم بشر مثلنا لا يختلفون عنا بشيء إلا أن الحاجة المقرفة دفعتهم ليتغربوا عن أوطانهم و أسرهم فيكونوا " خدماً " ليكونوا تحت سيطوتنا ، ( كل من في البيت ينهرها بازدراء و غطرسة ) .

تتجه الكاتبة إلى بيان ما يتخلل الأسرة من فجوات تربوية جعلتها فاقدة إلى الأريحية والدفء فنرى الأب قابع في حجرته المكتبية يسكب شغفه العاطفي في الناحية المعاكسة مبتعداً عن الوهج العاطفي الذي منحنا الله تعالى لنفرشه في واحة الشريك " الزوجة " لينفتح على الأسرة بكلها ، ( أطوف على حجرات البيت المكتظة بالأسرار ، فحجرت المكتب تغلف همس أبي بالكتمان المريب ، التقطه برهافة و فضول من وراء الباب ، فثمة امرأة فجرت لواعجه فعاث يستجديها بشوق ذليل ، الأكاذيب يهضمها الطفل المقعد على عسر وقرف ، ومن حوله يتنبه صمته الملغوم ، فنظراته الصاعقة تثقب الأبواب المقفلة على احتمالات سلبية ) .

إنه التنافر العاطفي بين الزوج و الزوجة مما يفضي إلى هرولة الزوج لملئ هذا الفرغ العاطفي بمنحنيات قد يعانقها الشيطان بكل حيثياتها ، ( فكل منهم يهرب إلى ذاته بتوحد و أنا نية ، أمي المختالة بمنصبها " كمديرة لمؤسسة اجتماعية " حينما تنزوي في حجرتها تتعرى من كل أقنعة التملق و النفاق التي تزينها كسيدة مجتمع أمام الناس ، اللسان المنمق بمصطلحات سيدات الصالون ينحدر في السوقية و الابتذال مع رعيتها في البيت ، و أول من يتلقى طعم البذاءة أبي المترهل الشخصية الذي نفس عن رجولته المكبوتة خلف باب المكتب ، امرأة مجهولة ترمم مكوناته المنخورة فيعود بعد جولة عاطفية منتعشاً ، منشرح المزاج ) .

إنها تشير إلى الفوضى وهذه نتيجة طبيعة للتنافر الحاصل بين الزوجين فيما يخص الأبناء ، ( أختي " سمر " ضائعة في متون الإنترنت ، أخذتها أصابع خفية إلى هاوية الغواية فلم تجد حولها مركب إنقاذ يلقيها على ضفة الحقيقة و النور ) ، ( أخي البدين " سامي " يفكر بعقلية طفل ساذج ينهم الطعام ليسد جوعه إلى الحب ويبرئ جرح الأنا المسحوقة ) ، ( و أنا محبوس في شرنقة العجز داخل حجرة ملوثة تفوح منها روائح عطبة و عفن من بقايا أطعمة أهملت بعد رحيل الخادمة ) .

تأخذنا الكاتبة إلى الناحية النفسية لدى الأبناء وما قد يشعرون به  إزاء بيئة أسرية مفككة حيث كل يتجه إلى المتنفس الذي صنعه لذاته ، ( الإعاقة تشعرني باليأس بل كجرم أعاقب عليه بالتحقير والامتهان .. ، تتحاشى أمي النظر إلي فربما أذكرها بخيبتها ، بفشلها ، بوصالها النافر من أبي ، أغوص إلى داخلي هرباً من نظرات التهكم و السخرية ، أتمنى لو أحطم هذه العربة و أحلق بجناحين لأخرج من سجن نفسي المتآكلة و أتحرر من إعاقتي البغيضة ، لم أجد في نفسي ثمة أمل أو فتيل نور يعينني على مكابدة نقصي و هزيمتي ) .

رحلت شانتي ..

إن الكاتبة تشير عبر رحيل " شانتي " إلى أن الحل كان مؤقتاً ذهب بذهابها لدى فإنه بمثابة دعوة إلى الأم و الأب ليكونا هما من يضفي الحنان على إبنهما ( محسن ) المعاق وهذا هو الوضع الطبيعي الذي فرضه الواجب الإلهي ، ( فهذه قصتي مع " شانتي " يا صديقي ، المرأة التي صنعت مني فناناً بارعاً بعد أن أشعلت أصابعها شمعاً لتضيء درب حياتي بالأمل والحب ..

إنها تعطي الأمل رغم الإعاقة كأنها تقول : امض إلى الأمام و تحدى الصعاب ، ابتسم رغم الألم القابع بداخلك فأنت من يعطي الحياة رونقها ..
إذاً هي مجرد فضفضة أيها الصديق فانظر أمامك يوجد ضوء ..

معلم لغة عربية