على هامش مقالة: (حكومات الخليج والدور المطلوب)

 

أتابع باهتمام باستمرار، تعليقات وتعقيبات القراء الأعزاء جميعاً، على تلك المقالات التي أنشرها بين وقتٍ وآخر، تعبيراً عن الرأي ورغبةً في الإصلاح، غير عابئٍ كثيراً - هنا خصوصاً -، بطبيعة المعارضة في تلك الردود، التي ينشرها القراء الأعزاء - وذلك بعيداً هنا طبعاً عن قيمة المحتوى والأشخاص -، والتي قد يأتي بعضها أحياناً طبعاً متشنجاً ومنغلقاً كثيراً، بينما قد يأتي بعضها الآخر في أحيانٍ أخرى، في قمة التأدب والهدوء والعقلانية والاحترام. فكلٌ من هؤلاء القراء الأعزاء، في نهاية المطاف، يؤجج بردوده في نفوسنا الحماس، ويثري بما يطرح من فهم ورؤى ساحة الأفكار، فيفتح في النهاية نوافذ متجددة، وتيارات متعددة، تطل على حقائق الحياة. وهذا دورٌ إيجابي، من هذه الناحية أقلاً، يدركه كل العقلاء. وهو مما يقتضي الإيمان بضرورة ومشروعية وفائدة التعدد والتسامح والتنوع لا العكس. وذلك طبعاً وإن أساء البعض هنا، عند الاعتراض وممارسة الاختلاف، بأسلوبه الفج وعباراته السيئة، لذلك الاختلاف الإيجابي، ولفهمنا الإيجابي لذلك الاختلاف، ولطرق التعبير عنه.

وعلى العموم، فكلٌ في النهاية يعبر هنا أيضاً، بردوده وطبيعتها من جهة أخرى، عن ذاته، وعن ما تمتلئ به تلك الذات من خير أو شر، ومن وعي وفهم أو غيره، لا عن الكاتب وما كتب أو ما قال. وتلك بالطبع سنة هذه الحياة وطبيعتها، في التعدد والتنوع والتفاوت وتعدد الأفهام وتناقض المصالح وتعارضها. فلا يمكن أبداً أن يصل الناس للكمال المطلق، ولا يمكن أن يتخلصوا أبداً من كل النقص والتناقض. وهنا، فلا شك أن الواجب على كل إنسان منا أياً كان، كاتباً أو معلقاً أو خلاف ذلك، هو أن يتحمل مسؤولية تصرفاته وسلوكه وأفكاره، ونتائجها وردات فعل الآخرين عليها، خصوصاً عندما يجاهر بها، وأن يضع حساباته الصحيحة، لكل ما يمكن أن يترتب عليها.

وأنا أحب أن أؤكد هنا، على أن عدم متابعة الرد على تلك الردود والتعقيبات المتنوعة، التي ينشرها القراء الأعزاء، بردود مقابلة من قبلي بشكل مستمر أو غيره، لا تعني عدم المتابعة أو عدم الاهتمام أو عدم الرغبة في الحوار أو الزهد فيه، وذلك لتطمئن هنا قلوب أولئك الأحبة المخلصين والجادين في الحوار، والمدركين لقيمة وأهمية الحوار في تحريك ودفع عجلات الإصلاح، إنما تمنعني اهتماماتي وانشغالاتي الثقافية والحياتية في مقامٍ من جهة، وفي المقام الآخر - وهو الأهم -، فيمنعني عدم الرغبة في تحويل ساحات التفكير والمناقشات الهادئة والمتزنة، لساحات صراع واحتراب وشجار وجدل صاخب مستمر بلا فائدة، يستهلك الوقت والجهد والأفكار، فهذا الأخير ليس من غاياتي، ويكفيني أنني قد أدليت بدلوي هنا، وطرحت أفكاري، أو ما أردت طرحه في بيئتنا الثقافية. وهي في النهاية هنا، ليست سوى مقالات تنويرية ومحاولات فكرية إصلاحية، ألقي بها في البحر الراكد من حولي، ليتحرك بها ذلك الفكر التقليدي الراكد، الذي اعتاد الجمود والسكون حد الموت فجمدنا وأركس أمتنا، وكفى. وأنا لا أمتنع في النهاية، في الظرف المناسب وبالطريقة المناسبة، التي أختارها، أو أقبل بها، عن التفاعل والاستجابة المناسبة، وعن سماع الصدى والرد، بل أرحب بذلك كله.

ورغم طرحي القاسي على بعض الإخوة الأعزاء في بعض مقالاتي - وأنا أعترف هنا بتعمد تلك القسوة على الأحبة، أحياناً طبعاً -، والذي قرأه ويقرأه البعض من القراء الأعزاء تعالياً وتصلباً وتحجراً واعتداداً بالرأي لا داعي ولا مبرر له، إلا أنني في قرارة نفسي - إن شاء الله - على خلاف ذلك التعنت والتعالي، الذي يتوهمه ويتصوره بعض القراء الأعزاء، فالحقيقة كما أفهمها وكما أعرفها وكما أتصورها في النهاية، مهما حاولت أنا أو حاول غيري من الكتاب أو القراء أو غيرهم اقتحامها، فستظل كما هي دائماً بالنسبة لنا جميعاً نحن البشر، محدودي الحواس والمعرفة، نسبية متعالية، بحاجة للتعاون والتعاضد والتكامل حتى في أبسط صورها الجزئية، كما أدركها العقلاء دائماً، فلا يمكن أن يحتكرها أي إنسان منا، ولا  تستطيع هي - وذلك هنا على قاعدة فرض المحال ليس من المحال طبعاً - أن تبرز وجهها ذي الملامح المتعددة، من زاوية واحدة فقط لذي عينين، لتكون معلومة بكاملها لإنسان واحدٍ دون سواه، فكيف أستطيع أنا البسيط والمحدود، القابع في عالم التخلف والجهل المستفحل في أمتي العربية والإسلامية، والمتأثر بذلك، والبعيد في نفس الوقت كل البعد، في حدوده المكانية، المؤثرة بلا شك على مدخلات الحواس، عن مراكز عالم المعرفة المعاصرة، أن أدعي أنني أنا، هو ذلك التورم والانتفاخ والغرور الكبير، الذي يحتكر أو يمكنه أن يحتكر كامل الحقيقة والفهم والمعرفة، كما فعل ويفعل ذلك آخرون، رضوا بالتعالي، فانتفخت ذواتهم المحبوسة في أطر بروجهم العاجية. ثم أيضاً، كيف يطيب لي، أن أدعي فوق رؤوس أبناء مجتمعي الحبيب، الذي لا أستغني عنه، ذلك، لأتعالى بذلك، على إخوة أعزاء، يشاركونني شظف العيش، وحلوها ومرها، وأشترك معهم في وحدة الهدف وفي المشاكل المشتركة، وذلك حيث أحتاج لا شك هنا دائماً لكلماتهم الطيبة ودعمهم وتشجيعهم الخير والحسن، وأنا أدرك أيضاً كذلك، أن الإنسان دائماً مهما سمى، فهو قرين النقص، يبدأ به، وينتهي إليه، ويتقلب حوله، بل ولا يحيد عنه أبداً، مهما فعل؟!!!. ولذا فأنا أقول هنا، أن ذلك التفسير والتصور، الذي رميت به، والذي اتجه ويتجه إليه البعض، لتفسير تلك القسوة في بعض مقالاتي، تفسير خاطئ، وظالم جداً، في حقي. ورغم ذلك، فأنا أصر على طريقي، فأتحمل ذلك كله وأتقبله، كردة فعل طبيعية، على ذلك البوح الذي اخترته، فبثثته ونشرته في المجتمع، حيث لا يمكن الهروب هنا من ذلك، إلا بالمداهنة السالبة، والصمت كامل الصمت، بحيث تموت تماماً، تلك القضايا التنويرية العادلة.

ومن الجهة الأخرى، كي لا نحيد عن الواقعية والموضوعية في نقاشاتنا، فإن من الطبيعي كي يستطيع كل إنسان منا، العيش والحركة والفاعلية في هذه الحياة، فإن من الطبيعي، أن يؤمن كل إنسان منا، بأن ما لديه من أفكار وقناعات، هو حق وواقع له قيمة ومصداقية حقيقية واقعية، أو على الأقل، أن يؤمن بأن ما لديه قريب جداً من الصحة والصواب والحقيقة والمصداقية، التي نرجوها ونبحث عنها، للفعل والفاعلية في هذه الحياة، وهذا يختلف طبعاً كثيراً عن الترفع والتكبر والمكابرة وعدم التواضع، وأنا هنا واحدٌ من هؤلاء البشر الطبيعيين، الذين يبصرون ما أمامهم بحسب قدراتهم الواقعية، ويبحثون عن الحق فيه، ويفتشون عما يمكن أن يبصر ويستفاد منه، حتى ولو في صوره النسبية، المدركة لنا فقط من الزاوية البشرية، كصورة الكأس المنبثقة من فوائدها العامة المعروفة، التي ندركها نحن البشر لنستفيد من مختلف صور الكؤوس في حياتنا، دون أن ندرك هنا أو أن نلتفت أو نتعمق في طبيعة الصورة المجهرية الغائبة عنا أو غيرها، والتي لا نحتاجها، وقد لا نبصرها أبداً، لتلك المادة - وهنا تقبع صورة مهمة للوعي -، وهي تلك التركيبات الذرية المعقدة - التي كشفتها العلوم المعاصرة والأجهزة الحديثة -، أو ما وراءها وما هو أبعد منها، والتي ربما تولد صوراً ذهنية مختلفة كثيراً، ربما يدرك جزءً منها غيرنا من الكائنات الحية، المعتادة أو غير المعتادة - إن وجدت -، بحيث تغيب تلك الصور الذهنية الموجودة لدينا، وهذا بلا شك أمرٌ طبيعي في الكائنات، ومشروع ولا عيب فيه. والمرجو هنا من بعض الإخوة الأحبة بالطبع، هو التوقف هنا والتأمل، عند هذه الفكرة، وهذه العبارة، كي يقفوا على حقيقة تنوع وتعدد هذا العالم.

والعيب هنا عند حديثنا عن القناعات والمعتقدات، إنما هو في أن نتكبر ونكابر، ونغلق على أنفسنا خط الرجعة والمراجعة، وأن ننزه أفكارنا وقناعاتنا وعقائدنا عن النقد المشروع والصحي والإيجابي، وأن نؤمن بأننا معصومون أو ملائكة، أو أن أفكارنا كذلك، أو بأننا أفضل في كل شيء من الآخرين، وهذا مرضٌ خطير، ضرره ليس بحاجة للكثير من التدبر والتأمل، لأن ذلك يؤدي في النهاية، للجهل والجهل المركب والتحجر، وتضخم الأفكار الخاطئة والخطيرة، وموت عمليات التفكير المبدعة البناءة، التي ميز الله بها هذا الإنسان، فأعزه وكرمه ونصره وقدمه.

وأنا - إن شاء الله - لست كذلك، وأرفض أيضاً بعد تجربتي في الدفاع المستميت - المؤدب طبعاً - في سنوات المراهقة التي مضت وولت بخيراتها ومثالبها، عن بعض تلك القناعات التقليدية المغلقة، التي يهيم أصحابها إعجاباً بها وتقديساً لها، والتي تنازل عنها، أو بشكلٍ أصح، عن بعض جزئياتها، في بعض الأحيان، حتى أصحاب تلك الجماجم التقليدية الضخمة الشامخة، المستلبة لعقول الأكثرية، الرافضة لسلوكيات المراجعة الجادة، مما شكل صدمة لبعض التقليديين، الذين اعتادوا الجمود في فهم الحقيقة والتعامل معها، لأن الجمود لديهم هو الأصل لا التحول والتغير، أن أقع في مثل ذلك الفخ الشيطاني الكبير والخطير، من الجمود المتداول في مجتمعاتنا، مرة أخرى. وأنا أدعو الجميع دائماً وهنا مجدداً لفهم ذلك، والتعامل معه وبه.

ولذا، فستبقى عندي كل الحقائق نسبية كما ينبغي، فأنا كغيري، ذرة في هذا الكون الفسيح، والمحيط الكبير، وإنسان بسيط، ينظر للحياة من خلال حواسه الخمس المتواضعة، التي أثبت العلم، تواضعنا - كأفراد أقلاً - وتواضعها، ومن خلال حدود عقله البشري الضيقة، ومشاعره وأحاسيسه المحدودة، لا من خلال تلك النظرة المثالية المتعالية السابحة في سديم القداسة، ولا شك أن هناك الكثير من النوافذ الأخرى في هذا الكون الفسيح، التي ينظر منها الآخرون للحقيقة الواسعة، من زوايا أخرى كثيرة مختلفة كثيراً، قد تكون أكثر صحة أو أكثر دقة ... الخ، مما لدينا.

وهكذا، فيتضح هنا لمن كان يسأل، بعد هذا البوح الطويل، الذي أرى أنه كان ضرورياً لبعض من يقرأ لي، أنني لا أدعي ولم أكن أدعي، كما توهم البعض، أنني أعلم ما هو الحق، وما هو الباطل، بدقة تامة، بل إن ما أفهمه وأعلمه بدقة مناسبة، هو فقط أنه غالباً ما يكون من يدعي ذلك الشموخ والتعالي على البشرية، إنما هو إنسانٌ مغفلٌ وغارقٌ كثيراً في قصوره وجهله، والذي يجب أن يكتشفه ويعترف به، ليتمكن من تجاوزه والتغلب على إشكالاته.

والمهم في النهاية هنا، كفائدة وخلاصة، هو أن الواجب على كل إنسان منا، هو أن يستخدم عقله وحواسه بحرية مطلقة، لينظر وفق ما يمليه عليه عقله من ضرورات، من خلال نافذته الخاصة، لهذه الحياة، فيعمل وفق ذلك، وهنا فليس عيباً أن نتبنى أفكاراً ونقتنع بها وأن ندافع عنها، بحسب ما يتاح لنا وما يتوفر لنا من علم وإمكانات تحكمها قدراتنا وتحكمها البيئة، أو أن نتنازل عنها ونستسلم لغيرها ونودعها، فمن حقنا ذلك، والحياة تتعطل حتماً بدون ذلك كله من القبول والرفض والتحليق المستمر بين مختلف واحات المعرفة وأزهارها.

وهنا، فيهمني أن أقول، أن من المهم عندي، أن أطرح أفكاري، وأن أخاطب الآخر، خصوصاً في إطار محاربة ما أرى أنه أوهام أو خرافات أو ظلم من الإنسان لنفسه أو لغيره، وفي إطار إشعال الحركة الفكرية والبحث عن التصحيح والتكامل ... فقط لا غير ... مستخدماً مختلف الأساليب المناسبة والمشروعة، حتى لو كان فيها شيء من الضغط على المشاعر، والاستفزاز الدافع للتفكير، ما أمكن لذلك من سبيل.

وهنا، فآراء القراء الأعزاء وتعليقاتهم، تغدوا هنا عندي، مهما اختلفت معهم، زاوية أخرى من زوايا النظر لهذه الحياة، ومفتاحاً آخر لرؤية هذا العالم. وربما يوفق قارئٌ ما، في استفزازي، للنظر من زاوية أخرى، جديدة ومفيدة، أو أكون أنا من يوفق لهدايته واستفزازه لتستقر عينه على الحقيقة، الدافعة للتنازل عن التقديس والمثالية، وهذا بلا شك أمرٌ جيدٌ بل مطلوب، بل أرى أنه من أهم ما يمكن طلبه وتحقيقه، لإنقاذ الأمة، بل ولإنقاذ البشرية.

وهنا، بعد هذه المقدمة، الطويلة العريضة، التي ربما أزعجت وأرهقت الكثيرين منكم أو ربما بالعكس - والله أعلم -، والتي رأيت أنها ضرورية - على الأقل بالنسبة لي وبالنسبة للبعض ممن أخاطبهم -، فهنا أريد أن أقف معكم وقفة نقاش هادئة، مع (تعليقات بعض القراء الأعزاء)، على مقالة (حكومات الخليج والدور المطلوب)، وهي مرتبة كما يلي:

- التعليق الأول: "أستغرب من التوافق، هل هذا موضوع يطرح في صفحاتها".

- تعليقي: "طبعاً، هذا نموذج ممتاز للقارئ الإقصائي. فما الفرق بينه وبين الحكومات المستبدة، وهو يدعو هنا بوضوح لتكميم الأفواه ... وقمع الأقلام؟؟؟!!! ... والسبب ... مجرد كلمات ... وإبداء رأي!!!".

- التعليق الثاني: "هل يريد المواطن الشيعي البسيط والعادي، من حكومته، أن يكون وزيراً، مثلاً؟!.

  بالتأكيد كلا،

من قال لك بالتأكيد كلا؟

أليس هذا حجراً على الناس حتى في أحلامهم؟

سيدي, عليك بعشرة من خريجي الثانوية الجدد أصحاب 95% وما أكثرهم في مجتمعنا واطرح عليهم السؤال".

- تعليقي: "أخي الحبيب، أولاً، شكراً على النقاش الهادئ. ثانياً، من قال أنني أنكر سنة الله في هذه الأرض، أو أجهل طبيعة البشر وطموحهم الدائم لامتلاك المزيد والتنافس على حطام الدنيا وزخرفها، ومن قال أنني أنكر حق المواطن في أن يتسنم أعلى المناصب، ليخدم بلده ونفسه من خلال ذلك. لكن المشكلة ليست هنا، فعندما تغلق الأبواب على هذا المرء وطموحه، وتكون هناك مشاكل أخرى عالقة في الوطن، تهم البسطاء والضعفاء الذين يبحثون عن مجرد وظيفة بسيطة متواضعة تكفيهم ذل السؤال والحاجة، فهل يجوز لك أنت أو لغيرك من أصحاب الطموح، أن تجير هؤلاء المحرومين والضعفاء لخدمة أغراضك ومصالحك ومشاريعك، بأن تتسلق على أكتافهم لتصبح وزيراً أو غير ذلك، عبر إدعاء أنك قد جئت بالحل السحري لمشاكلهم ومشاكل مجتمع بشري يكتنز الكثير من العلل، أم المهم في المقام الأول هنا هو حل مشاكل هؤلاء البسطاء ثم السير نحو بقية مفردات الحل الموصلة للتحضر والعدالة، والتي لا يمكن أن تكون أبداً إلا من أجل الإنسان والإنسانية لا من أجل التحضر والعدل نفسه؟!. وعندها عندما تتحقق العدالة، فلن يضر – حينها - أن يكون الوزير شيعياً أو سنياً. ومن يريد أن يستوعب أكثر مما قيل هنا، فليعد مجدداً لنفس المقال السابق (حكومات الخليج والدور المطلوب)، ليفهم حقيقة المغزى والمعنى المذكور هناك، كي لا ندخل في جدليات نقاش قشري، ينكر طبائع البشر، فنبتعد عن التفكير في حاجات البشر، ومصالحهم الواقعية الحقيقية المجدية".

- التعليق الثالث: "الأستاذ حسين المحترم يبدو أنه مهووس جدا بالواقعية، هذه المفردة التي بات يتغنى بها الظلمة والجبابرة كما يتغنى بها مثقفونا!

من قال لك يا عزيزي بأننا نستسلم للواقعية وللمعادلات الخاطئة، وظيفتنا التغيير ومجابهة الواقع الفاسد، مهما ألبس من أردية عصرية.

ثم لماذا يتم تصنيف البحث عن الحرية والعدالة والديمقراطية على أنه ارتهان للخارج، مع عدم وجود ملامح تدل على ذلك، بينما في المقابل توصف الحركات الاحتجاجية التي توجد فيها قرائن بل مؤشرات صريحة على الارتباط بالخارج، توصف بأنه دعوة إلى الديمقراطية، كما في سوريا مثالا؟

المؤسف أيضا أن الأستاذ المحترم في كثير من مقالاته عنيف جدا تجاه الداخل، ولطيف جدا حينما يوجه خطابه للحكومات والآخر المختلف، لا بأس أن تتعامل بليونة مع الآخرين، لكن هل يستحق إخوانك في الداخل كل هذا التقريع ؟

ولماذا تدني من سقف مطالبك، وكأننا قطيع غنم في غابة من الذئاب؟

عجيب! أين مظاهر احتواء المذهب الشيعي، وأين هو الاعتراف بالمذهب الشيعي، لقد أسرفت في التفاؤل وتحسين صورة الواقع كثيرا يا أخ..

وفقك الله!".

- تعليقي: "يعجبني طبعاً مثل هذا القارئ المحترم، فهو نموذج لذلك الإنسان المعتدل، الذي ننشد وجوده وتكراره، وانتشار نمط تفكيره وسلوكه الناقد في ساحتنا الاجتماعية والثقافية، فقد أختلف معي هنا غاية الاختلاف، ومع ذلك فقد طرح نقده في نفس الوقت بمنتهى الأدب وغاية الاحترام، فكان سلوكه النقدي هنا أقرب للنقد الفكري المثالي النشط الإيجابي، المبتعد عن تلك الشخصنة المريضة، التي يبتلى بها كثيرٌ من الناس، خصوصاً في مجتمعاتنا المريضة. وبمثل هذا السلوك الراقي الحضاري، يمكن أن نرتقي، ويمكن أن تولد في مجتمعاتنا تلك الحركة الفكرية الإيجابية الحقيقية الفاعلة، التي على أساسها يمكن أن تتوالد الأفكار ويتوالد الإبداع ... ولذا فأنا أرحب بمثل هذا النقد".

- كان هذا أولاً، أما ثانياً ... فهنا طبعاً لا بد من وقفة نقاش جادة،  وأنا سأطرحها هنا فيما يلي: " فهذا الأخ الحبيب، أورد كلاماً جميلاً ومحبباً لقلوبنا جميعاً، ينسجم مع آمال وتطلعات العدالة والقيم التي ننشدها ونتمنى تحققها في هذا العالم، ولا شك أن ذلك مما يعجب الجماهير ويبهرها أيضاً، ويمكنه أن يدفعها للقفز من مقاعدها لتهب مرحبة بصخب، ترفع أكف التهليل والتصفيق والتكبير، فالجماهير العربية والإسلامية يعجبها سب الحكومات وانتقاصها وتظن ذلك دائماً نصرها وخلاصها من مآزقها، لكنه في الحقيقة والواقع - أي هذا الكلام -، كلام رومانسي حالم، ولا يمكنه في الحقيقة أن يتجاوز الألسنة والحناجر التي تصدح به وترفعه عالياً غالباً، وإذا قدر وتجاوزها فلن يخلف إلا الوبال والدمار. ولذا فأنا أنصح هذا الأخ الحبيب والعزيز هنا، اختصاراً للحظة النصيحة، التي يجب أن تكون غنية ودسمة ومشبعة بقوة المعرفة بحقيقة البشر والمجتمعات البشرية وطبيعة صراعات القوى فيها، بقراءة كتاب الدكتور علي الوردي (مهزلة العقل البشري)، ففي هذا الكتاب الكثير مما سيفيد هذا الأخ العزيز، في فهم حقيقة واقعنا البشري، إن استطاع هذا الأخ طبعاً، الانفتاح على الحقائق الواردة في ذلك الكتاب، والتي تكشف جزءً مهماً من الطبيعة البشرية، والتي أجد نفسي متفقاً فيها كثيراً مع ما ذكره الكاتب الدكتور علي الوردي، والتي يمكن اختصار جزء مهم وضروري منها، في البوح هنا من وجهة نظري الخاصة طبعاً، بأن البشر وإن كانوا في ظاهرهم ملائكة، وهم ربما في طفولتهم قريبون جداً من ذلك، إلا أنهم في الحقيقة والواقع، خصوصاً في لحظات صراع المصالح وبعد أن تفسدهم الحياة بصراعات البقاء والإستقواء والمنافسة، فليسوا هنا خصوصاً، إلا سباع ضارية، تجملها المظاهر الخادعة الكاذبة، فتخفي ملامحهم الحقيقية، فهم هنا غالباً ما لا يتورعون حتى أمام أضعف وأطيب وأبرأ البشر، عن الظلم والعدوان، وعن أن يكشفوا عن أنيابهم التي تقطر بالدم.

وعودة على ما سبق، فإن الحقيقة كما ذكرنا سابقاً، وإذا نظرنا لها من هذه الزوايا الفاضحة، فهي أن ما ذكره هذا الأخ الحبيب، لا يعدو كونه أحلاماً وأمنيات وردية وبنفسجية، لا تمت للواقع بصلة، ولا تكشف تلك الحقيقة البشرية كما هي، ومن شواهد ذلك الكثيرة جداً، أن كثيراً ممن يدعون تلك المثالية والتضحية الأخلاقية والقيمية، ومن يزعمون أنهم لا يستسلمون أبداً للواقع الفاسد، ولا يتنازلون أبداً عن العواطف الإنسانية الطاهرة، ولا عن القيم العقلية الصالحة المثمرة، ما تجدهم يرضخون واقعاً بكل سهولة لأهوائهم وشهواتهم وغرائزهم، وللأعراف الاجتماعية الباطلة، المنافية لقناعاتهم ومبادئهم وأفكارهم المثالية، التي يعلنونها في الخطاب العام، وغالباً ما تجدهم كذلك أيضاً مستسلمون لكل أو أغلب القوانين في الدول التي يعادونها ويعتبرونها فاسدة مفسدة ظالمة وباطلة، خصوصاً إذا اقتضت مصالحهم ذلك. ليبدو لك في النهاية أن أولويات المصلحة الشخصية والفئوية الأنانية عندهم في الحقيقة، أرفع بكثير من أولويات القيم والشعارات العقلية والأخلاق التي يرفعونها، وهذا ليس عيباً فردياً، بقدر ما هو طبيعة بشرية متفشية.

وإذا أردنا التقريب والتوضيح أكثر، لما تقتضيه مصالح البشر عند تعارضها مع القيم والشعارات والمبادئ المثالية، فلنرجع للبنان وما يجري فيه على قواعد اللعبة السياسية كنموذج، فسنجد (حزب الله) مثلاً، يلعب تلك اللعبة السياسية بعقلانية مفرطة، خاضعاً لكثير من فروض القوة في القوانين الدولية، سواءً أكانت (حقة أو دينية) أم (باطلة وأرضية)، ويتعامل معها وفق شروط الشد والجذب الطبيعية لا المثالية - غالباً - مع أنه حزبٌ ديني، فلا يخرج على ما لا يمكن الخروج عليه، كما أنه أي - حزب الله - على صعيد الصراع الوطني مع القوى الداخلية كذلك، يتعاطى في ذلك بواقعية، وفق قوانين الواقع والمصلحة، بل إن المقاومة برمتها لم تنفجر ولم تنجح إلا لانبعاثها الحقيقي من ضرورات التحرك الشعبي من أجل المصلحة الواقعية، في ظروف تؤهل لذلك، ومع توافر عقليات تستوعب ذلك. ولذا فتجد الإخفاق في التنظير والتفكير وإدارة الصراع لا يتجلى عند الحزب، إلا عندما تضطر تلك العقلية المنطقية الثورية للتورط في الحديث عن صراعات خارجية ومصالح أطراف خارجية قد تؤثر على مصالح وموقعية الحزب، كتلك الخاصة بالعراق وسوريا وإيران ... إلى آخر تلك المعادلة.

وعندما تعرج على إيران، فستجد نفس تلك الحالة من الاستسلام للواقع أيضاً، والتعاطي مع حكومات ودول معادية وفق فروض المصلحة وتجاذبات القوة، حتى لو اقتضى ذلك توزيع الابتسامات على الأعداء والظلمة والضحك معهم، بل ولو اقتضى ذلك حتى التعاون معهم، ولن يتجاوز التحدي هنا حدود المنطق والقوة الواقعية للأمة. وفي العراق أيضاً كذلك، فستجد حضور نفس تلك المعادلة.

 إلا نحن في الخليج (علينا السلام)، فيحرم علينا هنا كشيعة، أن نكون كذلك، كغيرنا من الشيعة، وحينها سنسمى مهووسون بالواقعية، إن لم نستسلم للثورية الهمجية التاريخية، غير البراجماتية، المستمرة في سلوك البشر المضطهدين، التي خلقتها وتخلقها ردات الفعل النفسية الانفعالية، ويخلقها العجز عن التغيير عبر التفكير والتخطيط المنظم، والفعل المبني عليه، فلماذا يتم ذلك؟!!!.

والسبب هنا في ذلك طبعاً واضحٌ لكل من يتدبر، فهو انجرافنا مع النظر بمنظار المبادئ والمثل والقيم المثالية والحق والباطل المتعالي، في نفس الوقت الذي نغض النظر فيه عن قوتنا وحجمنا وواقعنا وإمكانياتنا ... الخ، وما تقتضيه تلك الضرورات والوقائع والمصالح الواقعية، من إعمال للعقل، والتدرج في البحث عن الأصلح، والسعي له، ويتم ذلك في ظل ظروف وبيئة لم تجبرنا على ذلك التواضع، وضمن ثقافة لم تؤهلنا لذلك الفهم والوعي. وهذا بالتأكيد يفسد فهمنا للحياة ويدمر واقعنا، ويدخلنا في الأوهام والأحلام، ودوامات عدم السيطرة على النفس، ومتاهات عدم القدرة على الخروج من المآزق.

ثم هنا، فمن قال أننا أنكرنا أهمية وضرورة محاربة الفساد، ومن الذي يقبل بأية مبررات وهمية واهية تدفع باتجاه الفساد أو تبرر له، وقد تكلمنا وكررنا الإشارة، لضرورة الإصلاح، وأبنت بوضوح، عن إيماني بمشروعية المطالبة بـالحقوق والدفاع عن الحق، لكن ذلك كله لن يتم حقيقة إلا عبر الطرق العقلانية والواقعية الممكنة، لا عبر الخضوع للأوهام والأحلام والانقياد للتفسيرات غير المجدية، التي يتشدق بها البعض منا كثيراً. وقد أبنت ذلك فيما مضى، وها أنا أؤكد على ذلك أيضاً هنا مجدداً، رغم أن ذلك ليس مما تحتاج مشروعيته، لا للبيان ولا للإيضاح. فمشروعية وضرورة المطالبة بالحق، من الحق الواضح الذي يعرفه أبسط العقلاء، والذي لا يحتاج لبيان ولا لإيضاح، شريطة أن لا يكون ذلك الحق من نوع ذلك الحق في أن نتمنى ونسعى لأن يعيش الغزال والأسد والذئب والخروف والقط والفأر والفراشة معاً حياة الحب والسلم والأمن والأمان والسلام الحالمة، في مدينتهم الفاضلة، وإلى الأبد، دون منغصات. فرغم أن ذلك جميل وعاطفي ورومانسي جداً ويسحر الألباب ويخطف قلوب البسطاء من البشر ... الخ، إلا أنه ليس مما ينسجم مع الطبيعة والواقع البشري المر، فهو ملائم جداً فقط لأحلام المثاليين من البشر، الذين لا يفقهون الحقيقة ولا يقتربون من الواقع البشري بيولوجياً وسيكولوجياً ... الخ، وفق تلك الطبيعة التي ترفض السير في طريق الموغلين في المثاليات، ونحن هنا لسنا منهم إن شاء الله تعالى. وستبقى المسألة هنا قناعات شخصية واجتهادات بشرية، معروضة للحوار، وعرضة للإصابة والخطأ، ولكن لها بلا شك تبعاتها التي لا يمكن إنكارها على حياة الأفراد والأمة. واعذروني هنا على هذه الصراحة والجرأة المرة في النقد وطرح الأفكار المغايرة، في مجتمعات ترفض وتحارب وتهمش المخالف والضد، ولكن أيضاً يجب أن نعلم جميعاً صراحة أن عالمنا لن يرحمنا، إذا انجرفنا مع مثل هؤلاء المنظرين المثاليين، الغاوين عن سبل الحياة والحضارة العصرية الواقعية، أو داهناهم مداهنة كاملة، فلم نغير عليهم بقول ولا فعل، ونحن قادرون على ذلك، وهو حقٌ مشروع لنا بلا شك كذلك.

ثم إن العجز عن الانتصار للحق بطريقة ما، وعدم الاستسلام للعاطفة والانفعال الثوري هنا، والمتولدان من ضغط القهر وواقعه، لا يعنيان بلا شك، الرضوخ للظلم والقبول به وتسويغة، فهناك سبل عقلانية منطقية واقعية ممكنة لإصلاح أحوال الناس وواقعهم ... ويجب أن لا تعمى العيون عن ذلك.

هذا طبعاً من جهة، أما من الجهة الأخرى، فقد تحدث هذا الأخ العزيز عن البحث عن الحرية والعدالة والديمقراطية، ليوضح لنا أن ذلك ليس ارتهاناً للخارج، وأنا أشد على يديه، وأوضح بالقول: "أي مجنون هذا الذي قال أو يمكن أن يقول لك ذلك"،  بل لقد فهمت كلامي هنا خطأً يا أخي، فالكلام لم يكن حول خطأ ذلك، بل حول بعض الشعارات والمبادئ والأطروحات - ودقق وركز معي هنا -، التي لا تنسجم مع الحقوق المشروعة والعدالة والديمقراطية بقدر ما تنسجم مع تفكيك اللحمة الوطنية والخضوع لقرارات سياسية عابرة للدول والحدود وممتدة خارج حدود الوطن الجغرافية والسياسية، وكل ذلك في الواقع من أجل أمل ديني فئوي طائفي محدود، وأنا لا أريد هنا - طبعاً - أن أصب الزيت على النار أكثر، فأثير زوبعة بتسمية الأشياء بأسمائها، لأنني أرى أن تلك الزوبعة هنا لن تكون جيدة ولا إيجابية ولا مناسبة، ما لم يتوافر الوعي المناسب والكافي في أبناء الأمة، أو على أقل تقدير، فهي هنا غير ضرورية، ولذا فنكتفي هنا بالقول: "اللبيب بالإشارة يفهم" ... وافهم يا فهيم.

وأما بخصوص القضية السورية، فأنا لم أدخل في تلك القضية وتفاصيلها في مقالتي السابقة، ولا أريد ذلك هنا أيضاً، فهي قضية سياسية شائكة جداً ومعقدة، خصوصاً عند المناقشة العابرة والعامة، وهي كفيلة بأن تربك أفهام الكثيرين هنا، وقد أربكت فعلاً حتى الخطاب العقلاني لأفضل الحركات الدينية السياسية العقلانية آنفة الذكر، التي أصبحت هنا فاشلة جداً، بسبب تلك المعضلة، لما في المسألة من حساسية وتعقيدات، يمكن أن تعود بالكثيرين هنا للتساؤل: "أيهما جاء قبلاً، البيضة أم الدجاجة؟!!! وأيهما أهم وأولى وأبدى، الإنسان ومصالحه أم القيم والمثل والمبادئ الفاضلة؟!!!".

وأما عن قسوتي على الداخل، ومجاملتي للطرف الآخر (الديني/ أو السياسي) الأقوى، فهذا مما أعترف به، ولا أخجل منه، فليس من المعقول أن تخاطب ابنك حين يخطئ فتسعى لتقويم سلوكه، أو يقصر فتطلب منه حقاً، كما تخاطب تماماً رئيسك، أو أي شخص آخر في مقام أعلى، حين يخطئ، أو حين تطالبه بحقٍ من حقوقك. فالخطاب الصارم مع ابنك، عندما يعطي دلالة تنبيه عنيفة ومهمة، أمام الأخطاء، مطلوب ومفهوم، في أحيانٍ كثيرة، خصوصاً في تلك القضايا الحساسة، وأمام ذلك فالخطاب اللين والدلال المفرط هنا قد يكون له في بعض الأحيان على الأقل آثار سيئة وربما خطيرة، أما الخطاب القاسي والجاف مع الحكومات والدول والمسؤولين في أي بلد، حتى عندما تقتضيه وتبرره الظروف والحاجات وإشكالات الواقع، فعندما يأتي من طرف ضعيف وغير مقتدر وغير قادر، فهو خطاب غير رشيد وغير رزين وغير واعي وفاقد للحكمة والتوازن. فهناك شيء مهم جداً هنا قبل منطق المطالبة والجرأة والدفاع عن الحق والحقوق والحقيقة، يختصره سؤال بسيط هو: (ما قياسك؟! وما حجم قوتك، يا من تطالب؟!)، وهذا سؤال واقعي حرج يبغضه البعض، بل يكرهه وينبذه الكثيرون، وأنا للأسف لست منهم، ولا أرى العيب في ذلك. ويكفيني هنا لتأييد زعمي بضرورة الحكمة واللين والتروي  عند مخاطبة الحكومات، في خطابات المجتمعات الدينية، حيث أننا شعوب متدينة خصوصاً في ميادين الاستشهاد والثرثرة واستلاب حقوق الأطراف الضعيفة، الاستشهاد بقوله تعالى لموسى وهارون (عليهما السلام): (اذهبا إلى فرعون إنه طغى * فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى)، فالآية هنا واضحة تماماً، وتعطي جواباً كافياً، يمكن فهمه في المجتمع الديني.

وفوق هذا كله، فإن لي هنا فلسفة خاصة، لا شك أنها تبعدني كثيراً عن أن أكون مجرد نسخة كربونية بشرية متراكمة ومكومة مع غيرها من آلاف النسخ البشرية التقليدية الأخرى الموجودة في مجتمعاتنا وعالمنا العربي والإسلامي، وهي تلك التي أرى من خلالها الحياة البشرية وحالات التدافع الإنساني، فتجعلني بها في كثيرٍ من الحالات، أرى الجلاد والضحية والحاكم والمحكوم في عالمنا هذا، بالرجوع لأصل الأشياء ومنابع السلوك الإنساني، ضحايا ميكانزمات الحياة، وضحايا وراثة الماضي والتاريخ، فالإنسان ليس سوى نتيجة للمحيط والبيئة، فالنظام البيئي والاجتماعي (يبيض) بكل ما للكلمة من معنى، والإنسان يخرج من تلك (البيضة) متشكلاً بحسب نظام البيئة والمجتمع،  وهذا (التفلسف) هنا، قد يحتاج منا لشرحٍ طويل، قد لا يكون محله هنا، وإذا جمعنا كل هذا معاً، فيمكن فهم قسوتي تلك مع أحبتي وأبناء جلدتي ومع الطبقات المسحوقة ... وليني في الجانب الآخر مع الحكومات والمخالفين والمسؤولين ... فهي فلسفة لتسيير عجلة الإصلاح والواقع الفاسد وإنعاش الحياة بما يمكن ... لا بما نريد لكنه غير ممكن ... ليس إلا ... فهل يمكن فهم ذلك؟!!!.

وفي الأخير هنا، فأنا هنا لا أرد معقباً على تلك التعليقات والردود الواردة على مقالتي، لأنني قد تضايقت أو انزعجت من خطاب المخالفين والمنتقدين، فأنا أكره دائماً التقديس، وأكره ذلك الجبن الذي يجعلنا نحني رؤوسنا أمام بعضنا لنجامل دون أن ننتقد، مما يجعلنا نغوص بعيداً في التخلف بسبب المجاملة والتقليد والمداهنة (الريفية والبدوية) الموروثة، البعيدة عن روح الحضارة. وأنا أيضاً لم أكتب كتاباتي لأنني معصوم وبعيد كل البعد عن كل أنواع الخطأ، ولا أكتب لأكون مقدساً كما يفعل البعض، لتنحني أمامي الأدمغة والرؤوس، بل أكتب وأستفز لأثير دفائن العقول، لأكون واحداً من كلٍ منسجم في عمليات التفكر الحقيقية، وأكتب لنفكر ونتعاون عبر نقدنا لبعضنا البعض على إحياء عمليات تفكر جادة، والمنشود هو في النهاية حراك فكري دائب منتج، يلغي التقديس ويحرك النقد، ويلامس الواقع ويبتعد بنا عن الخيال والوهم، لنصبح مؤهلين في النهاية لإصلاح الواقع.

وإن الشيء الوحيد الذي أكرهه هنا بالتأكيد وفق ذلك، وأحاول أن أقف ضده وأبعده وأوقفه، هو الإقصاء وتكميم الأفواه والإهانة، والتعرض للذوات المحترمة بدل الأفكار، التي يعشقها وينشدها البعض.

إنني فعلاً، لا إدعاءً وقولاً، لا أكتب لأنني أمتلك كل الحقيقة، وجواب كل شيءٍ، أو لأنني أدعي أو أتصور لنفسي ذلك، كما توهم ويتوهم البعض. فالحقيقة نسبية، والأجوبة تتغير بتغير الملابسات والظروف والإمكانيات. لكنني أكتب لأن هناك في الخارج بلا شك قدرٌ كبير متيقن من التخريف والمجازفات بأرواح الناس، وأكتب أيضاَ لأَنتقد وأُنتقد، بأدب وهدوء وتدبر وروية وتفكير، لكي ننموا جميعاً معاً ونطور حياتنا الإنسانية، بعد أن نفتح أمام التفكير كل البوابات الكثيرة الممكنة، لأن هذا هو السبيل الوحيد لبيان الحقائق أو القدر الواقعي الممكن والمناسب منها ... فأرجوا أن يكون كل ما ذكر بعد هذا كله واضحاً ... والسلام ختام.