حتى الطغاة يولدون على الفطرة

 

 

هناك فارقٌ كبير بين التركيز على الفرد ودوره في إحداث التغيير في المجتمع والأمة والنظر إليه باعتباره كياناً من الخير أو الشر مستقلاً مؤثراً بذاته معزولاً عن مجتمعه وبيئته ومحيطه، وبين التركيز على دوره من خلال دور ثقافة وواقع الأمة وطبيعة المنظومة الاجتماعية وحقيقة ميكانزمات التفاعل بين أبناء المجتمع وطبيعة الظروف والملابسات العامة التي تحيط بجميع أفراد المجتمع، والتي في النهاية تصنع الإنسان وشخصيته وقراراته. فالأول، وهو الاستقلال هو الاستثناء والأقل إن وجد. والثاني، وهو الارتباط والتداخل هو الأعم والأهم والأغلب، إن لم يكن هو الكل والحق والواقع كله.

وللإيضاح، فيمكننا القول أن هناك من ينظرون للجريمة مثلاً، باعتبار أن منبعها هو الأفراد وذواتهم الشريرة، ومن ينظرون للكفر والإيمان بأنهما هما أيضاً حالات فردية تنبع من الأفراد أنفسهم ومن شرورهم الداخلية الخاصة بهم، وكأنما الشر قد عجن بطينة بعض الناس وفطرتهم منذ البداية، فهم من يفسدون الكون أو يصلحونه بمفردهم بسبب طبيعة نفوسهم. وقليلاً ربما ما يتم تجاوز هذه الحالة من التفكير المتطرف والسلبي في مجتمعاتنا وفكرنا الشرقي العربي والإسلامي بشكل واعٍ، للنظر للجريمة والكفر والإيمان من خلال منظور شامل ومتكامل وعام، يجعل الأسباب لا جوهر الإنسان، والكل لا الجزء هو المسؤول الأول والأساس عن ذلك كله، أو على الأقل شريكاً حقيقياً وحيوياً في صناعته.

ونحن لا نريد هنا بالطبع، أن نلغي دور الفرد في الإصلاح أو في الجريمة، ولا مسؤوليته عن تصرفاته، ولا قدرته على بناء ذاته وقناعاته، لكننا نريد إرجاع الأمور إلى نصابها الطبيعي والواقعي والحقيقي، بالنظر من الجانب الآخر، المخفي والمبهم والمهمل عند الكثيرين من أبناء الأمة، وهو الشراكة والتداخل والتفاعل، الذي يجعل الأفراد جزءً من معادلة عامة، بحيث يمكن من خلال آلة المجتمع وآلياتها إصلاح الفرد وإفساده.

وهنا، فيجب أن يتحرر فكرنا خصوصاً في هذا العصر، الذي ترابطت فيه الأشياء رغم بعدها، وتصلبت فيه عقد الارتباطات، واشتدت فيه دوائر المصالح تماسكاً، من فكرة (الشرير الفرد) و(المصلح الفرد) والقائد المهيمن، الذي يحرك الكون والمجتمع والأمة نحو رغباته وإرادته في الإفساد أو الإصلاح، بتحريكات بسيطة منه لإصبع أو راحة اليد، وكأن المجتمع واستجاباته بلا اشتراطات وبلا ممانعات وبلا نزعات ولا إرادات ولا معوقات مستقلة. في الوقت الذي يحتاج فيه التغيير في الحقيقة عبر مثل هذا المثال والتصور، لتوفيق كبير يفوق كل الإمكانات والتصورات، بل هو أشبه بالمعجزات، إن لم يكن في الحقيقة منها، ومن سابع المستحيلات.

فالأفراد كما ألمحنا، ليسوا سوى جزءً من آلة المجتمع الكبيرة، بل آلة البيئة الأعم، وهي - أي تلك الآلة - أشبه بآلة أحلام أو أوهام أو تصورات ودائرة مصالح قادرة على التأثير في كل الأفراد، والسيطرة على عقولهم، والهيمنة على تصرفاتهم، ليغدو الفرد فيها جزءً من الميكانيكا العامة وتوجهاتها، وكأنه - نسبياً ومجازاً - لا قرار له ولا إرادة منفصلة ومعزولة عن واقع تلك الآلة. وهذا بشكلٍ نسبي، واقعي وصحيح، رغم أن الأشياء الكبيرة لا تصنع إلا من إرادات صغيرة. فالفرد بطريقة ما، ليس سوى تعبير عن واقع الأمة، وعما اكتسبه من المحيط، ومن واقع تلك الأمة والبيئة المحيطة به.

وهنا فقد يولد الإنسان في عصر المعرفة والذرة والكمبيوتر، فيركب السيارة ويسافر بالطائرة ويأكل بالملعقة ويبحث عن محطة بنزين ويتعامل بالعملة الورقية ... الخ، فتترتب على طبيعة الحياة في عصره هذا، سلوكيات مبرمجة، إجبارية أكثر من كونها اختيارية وذاتية. فلا يمكن أن يتعامل الإنسان هنا بالدينار والدرهم، ولا يمكن للسيارة مثلاً، أن تأكل العلف الذي ستضطر بطريقة ما ومنهجٍ ما أن تجلبه لها. وقد يولد الإنسان كذلك في الجاهلية الأولى وفي بيئة الجمل والماشية، فتترتب سلوكياته هنا أيضاً بحسب البيئة بطريقة أخرى مختلفة، وربما يجد بعض الناس نفسه هنا، ضمن ضغوط الجاهلية وبيئتها وظلامها وتخبطات أهلها، مجبراً ومبرمجاً بطريقة ما، قد تكون دائما ربما أو غالباً نفعية، على سلوك طريق التنوير، ونهج منهج التوعية، المصادم والمضاد لاختناقات تلك البيئة الجاهلية، لمكافحة عبادة أصنام الصخر والتمر والحجر، كاللات والعزى ومناة وهبل، والتي سيجدها حاضرة ومؤثرة وذات معناً هنا فقط، في عصره وبيئته هذه فقط وفقط.

يقول حبيبنا رسول الله : "كل مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه"، وهذا بالطبع لا يلغي كما أسلفنا مسؤولية الفرد، لكنه يشير بوضوح لطبيعة الحياة وتوجهاتها وللمعادلات الكامنة فيها. فكل إنسانٍ منا محاط بدوائر علاقات وثقافة ومصالح متعددة وعوامل أخرى مختلفة، وهو يتأثر بها في النهاية بحسب الدائرة الأقرب فالأقرب، والأقوى فالأقوى، نزولاً في سلم التأثر، منتمياً لها - غالباً على الأقل - لا منعزلاً عنها.

لذا، فعندما نسأل عن الجريمة، فيمكننا بالطبع أن نرجعها لأسبابها وعواملها الرئيسة المولدة لها، لا لشرور ذاتية في الفرد، مبهمة وغيبية وما ورائية ومجهولة. ولو كان الشر ذاتياً غيبياً فقط، ونابعاً من طبيعة أرواح شريرة هبطت إلى الأرض، وسكنت في الجسد، وعجنت بطينته، لنبع الشر من الأفراد بدون سبب يذكر، ولما احتاج الشر والخير، الذي نشاهده في هذه الحياة العامة، ويصدر من الناس، إلى علة، ولربما تعذر التعليل هنا مطلقاً. وهذا خلاف الواقع والمشهود حتماً.

فما في الواقع هو أننا، مرة نرجع الجريمة للمخدرات، ومرة للزنا، ومرة للفقر والبطالة، ومرة للطلاق، ومرة للجهل ومرة لعوامل جينية وبيولوجية ... وهكذا. وهذا قد يكون دليلاً واضحاً - وأنا أحسبه كذلك - على إيماننا العميق بعيداً عن أفكارنا الرديئة، بأن الفرد (الروح المجردة، بؤرة الاختيار) ليس غالباً إلا ضحية وصنيعة لعوامل الحياة وظروفها وحيثياتها وللتأثيرات المحيطة به، من كونه ينزع بذاته للشر، بدون وجود أسباب داخلية أو خارجية ملموسة ومحددة تؤثر فيه، فتجعل روحه النظيفة، تسبح في الطهر أو في الوحل.

وما ينطبق هنا في موضوع الجريمة والخير والشر، فسينطبق كذلك أيضاً في موضوعات العقيدة وقناعات الإنسان. فكل مولود يولدُ صفحة بيضاء ناصعة، وأبواه والدوائر والظروف اللصيقة والمحيطة به، تصنع منه يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو مسلماً، وشيعياً أو سنياً، ومعتدلاً أو متشدداً ... الخ. وهكذا هي الحياة في واقعها وواقعنا.

وهنا فيخطئ كل من يظن أن الحكام والطغاة والجبابرة خارجون عن هذه المعادلة البشرية العامة. فالحقيقة هي أنهم جزء من ذلك الكيان البشري العام، وهم كغيرهم خاضعون لنفس تلك المعادلة. فالطغاة أيضاً يولدون على الفطرة، فيهودون أو ينصرون أو يمجسون ... إلى آخر تلك المعادلة، وتصنع منهم الظروف والمجتمعات والملابسات المحيطة بهم أيضاً، حكاماً طيبين، أو طغاة وجبابرة مستبدين وظلمة. ولا شك بالطبع أن المعادلات في المجتمع في النهاية تتداخل بين مكونات المجتمع جميعها، فيؤثر بعضها في البعض الآخر، بطرق مختلفة ومتبادلة.

نعم، هكذا هي المعادلات. وهذا ليس دفاعاً عن الطغاة والمستبدين، أو تبرئة لهم من المسؤولية. لكنها محاولات إيضاح لحقائق القوانين الحاكمة في هذه الحياة، كي نستبين سبيل الرشاد وطرق البناء والإصلاح الواقعية. لنعرف في النهاية، أن البناء والإصلاح والتنظيم في واقع الأمة ونظامها، هو المطلوب والمنشود والمرجو، لا الانتقام والتشفي من المخطئين والمفسدين والأعداء والطغاة والظلمة، الذي يفهمه ويمارسه بعض الجهلة والعاطفيين والمتخلفين والرجعيين، والذي لا يمثل القانون والإصلاح والمحاسبة والمحاكمة طبعاً.

فمسألة الإصلاح والإفساد، بنسبة كبيرة، ليست قابعة في نفوس أو ذوات الأفراد أعينهم، بقدر ما هي خاضعة بشكل كبير لميكانزمات وقوى عامة. والأفراد قطع قابلة للتغيير والإصلاح، أو خاضعة أقلاً بنسبة كبيرة للعوامل والمؤثرات الأخرى المحيطة، التي ينبغي الإرجاع لها والتعامل معها.

إننا نلاحظ أن المجتمعات غالباً عندما تكفر فهي تكفر بصفة عامة على شكل جماعات، وعندما تؤمن فهي تؤمن بصفة عامة على شكل طوائف، وعندما تنتقل للديمقراطية فلا تنتقل إلا بثقافة وإرادة المجموع أو الغالبة، أي ككتلة من البشر، ولا يحدث ذلك كله، لأن هناك (فرداً ما) بذاته وبمعزلٍ عن كل شيء حوله، قد اكتنز التغيير كله وحقق كل مقوماته في ذاته، فتحرك باتجاهه فأنجزه. فالفرد المصلح أو المفسد في موضع القيادة أو غيره، لا ينجز ذاته، بل ينجز ركاماً من الثقافة والقرارات والإرادات والرغبات والمؤثرات والتوجهات، قد تنصهر كلها فيه في النهاية، كصورة لذوبان الأمة في القيادة، واتحاداً للمعادلات في بؤرة، فتبرزه في صورة البطل المغير، أو الطاغية والشرير المدمر.

لكن التغيير بالبطل وحده لا يحصل، ولو حصل، فهو في النهاية لا يستمر، بل ينقلب بسهولة إلى صور أخرى، تبرز حقيقته وخواءه، إن لم يكن الفرد البسيط حقاً معبراً في حقيقته عن معادلات أعقد وأقوى وأصعب. وهذا يفضح خواء تقديس الأفراد في المجتمعات الإسلامية والشرقية. والكلام هنا طبعاً ليس عن قضية الترميز وقيمتها وأهميتها، فذلك مما لا مراء ولا جدال فيه وفي قيمته وأهميته. لكن الكلام هنا، إنما هو عن قضية صناعة أبطال من الورق، لا يملكون في حقيقة الأمر من الإصلاح، أية مقومات بيئية ومجتمعية وثقافية عامة واقعية تذكر.

إن تلك التكتلات المشار إليها سابقاً، من الكفر والإيمان والتحضر والرجعية، الحاضرة في هذه الحياة، والماثلة في هذا العالم، ربما الأصح أن لا تعتبر سوى دليلاً جلياً وواضحاً على أن الفرد ليس سوى جزء غالباً من الظاهرة العامة. وأما ما يتخذه الفرد من قرارات فردية, فقد لا يكون في الحقيقة غالباً، سوى توهمنا لفردانية تلك القرارات الفردية.

إن المجتمع وآلياته وثقافته وتقنياته وظروفه وكل ما يحيط به، في الحقيقة، مهما غفلنا عن ذلك، هي جميعها ما يصنع قرارات الأفراد وتوجهاتهم بنسب كبيرة. وهذا مما يجب أن لا نغفله وأن نضعه في موضعه الصحيح من ثقافتنا، وفي قلب المعادلة.

وصحيحٌ أن الأفراد قد يتفاوتون في مساحات الحرية ومدى الارتباط والتأثر بالبيئة والمحيط، وهذا مما يمكن تقبله وفهمه، لكن الجميع في النهاية متأثرون وخاضعون لنفس المعادلات، بدرجة عالية، لكن كما سلف بالطبع بنسب متفاوتة، وستبقى الحرية المتصورة أيضاً بحاجة لدراسة وفهم ووعي أكثر. ولا شك هنا أن الحكام والطغاة من أكثر فئات المجتمع تقيداً وتأثراً بالمجتمع وبطبيعة الظروف والمصالح المحيطة بهم وبدوائر مصالحهم، رغم ما يظهر من سطوتهم وقوة تأثيرهم في الأنظمة وفي المحيطين بهم. وبعبارة أخرى فإن طبيعتهم  وصفاتهم (بنسبة كبيرة) خاضعة هنا، لطبيعة البيئة والمجتمع والظروف المحيطة بهم وتلك التي انبثقوا منها، لطبيعة تأثير البيئة في أفرادها، وكذلك خاضعة أيضاً لخطر مواقعهم ومناصبهم ومسؤولياتهم، التي تستوجب منافسة شديدة من الآخرين، وضغوطاً قوية عليهم، تؤثر بلا شك فيهم.

ولذا، فيمكننا القول هنا، أن الحكام والطغاة، ليسوا سوى نتيجة للمجتمع، ولدوائر المصالح المحيطة بهم، ومن الخطأ الجسيم أن نهاجم الفرد ونحاسبه على جرائمه، ونترك المجتمع وآلياته الأهم والأولى، في حلٍ من ذلك الحساب كله. حيث أن الطغاة عندما يسقطون دون أن تسقط تلك المعادلات، فسيولد أشباههم من جديد، فنعود لنفس المعادلة، لكن ربما بوجوه جديدة. والمجرمون كذلك عندما يسجنون أو يبعدون عن مجتمعاتهم، دون أن تسقط المعادلات المولدة لهم، فحتماً سيخرج في المجتمع أمثالهم أيضاً، وهكذا.

وللحق والحقيقة، ومن باب الوضوح والصراحة، فإنه عندما تم القبض على القذافي، كشاهدٍ ونموذجٍ هنا، وظهر الجهل وظهرت همجية التعامل معه وتصفيته بتلك الصورة البشعة التي ظهرت في الإعلام ووسائله، لم نأسف على ذات فرد لم يحترم الأرواح والدماء الطاهرة ولا إرادة شعبه، بل عاث في دماء ومستقبل وخيرات شعبه فساداً، وأركس أمته وأذل وطنه، لكننا أسفنا حقاً وصدقاً، أن ينزلق الشعب الليبي الكريم أو جزءٌ منه - وما نرجوه أن لا تعبر همجية تلك الممارسة سوى عن حالة جزئية أو طارئة - لمستوى من الانحطاط اللا إنساني واللا أخلاقي واللا قانوني من التشفي والفوضوية، والذي لا يناسب إلا القذافي نفسه ومن لف لفه. فالمصلحون والثوريون المتحضرون الحقيقيون والأمة الرشيدة لا تتشفى من أعدائها ولا تخضع للعواطف اللحظية الناتجة من الظلم، لأن الحضارة لا تبنى بالعاطفة ولا بالتشفي، ولأن تلك العواطف اللحظية وحب التشفي نفسها، قادرة بنفسها أيضاً، على التبرير للقذافي نفسه، لو جاز لغيره استعمالها في التبرير، في كثيرٍ من جرائمه، بحجة خوفه وتشفيه في فترة حكمه، من نقمة وانفعالات شعبه وفوضويتهم ونضالهم ومقاومتهم، وهنا فسيتساوى إذاً الجميع في ردود الفعل العاطفية وفي الجهل والتخبط والظلم ... وهكذا.

وهنا، فمن منا، اذا كان يحمل عقلية التشفي والانفعالات اللحظية تلك، تجاه كل ما يحيط به، بحيث يفقد عقله ورشده ووعيه، في لحظة إعادة بناء، أوجب ما تستوجبه منه، هو العقلانية، وعدم التحول لآلات جهل وعاطفة وهدم وتشفي ودمار، يستطيع أن ينفي جزماً عن نفسه إذاً، أنه ليس سوى قذافي آخر بنكهة أخرى وعناوين مختلفة، لكنه لم يصل فقط إلى السلطة، وربما كان هذا هو الاختلاف الوحيد بين الاثنين، والذي يمكن أن يتضح أكثر، عندما تحكم الاثنين نفس الظروف ونفس آلة السلطة ومكنة المجتمع والبيئة والأمة.

إن الكثيرين منا لو ولدوا في الأسر الحاكمة، لأصبحوا هم أنفسهم نفس حكامهم الآن، لأن الدجاجة لا تلد جملاً، والفأرة لا تلد فيلاً، ومجتمعات التخلف والأسر الحاكمة في العالم العربي لا تلد حكاماً فطروا على الديمقراطية أو ركبت الديمقراطية في طينتهم ودمائهم وجيناتهم، فالمسألة أعقد من هذا بكثير. وهذا ليس تبريراً كما قلنا، لكنها دعوة للفهم الصحيح، للانفتاح الحقيقي والجاد على تغيير المعادلة بطرق حقيقية صحيحة واقعية فاعلة.

وهنا، فسيطيب لي أن أختم هذه المقالة، بقصة واقعية حقيقية نافعة ومفيدة، حدثت معي، تعبر بشكلٍ جيد، عن واقع الناس بشكلٍ عام، لكنها تنطلق من الدوائر الشعبية الأضيق، وهي كما يلي:

ذات يوم، بينما كنت أتبضع الخضار من إحدى الأسواق الشعبية، في نهاية الجولة، ذهبت لشراء كمية قليلة من الليمون، وحباً مني في ممارسة مهارات التعامل مع ظاهرة الغش، وكان البائع من الغشاشين المعروفين، فدققت في الميزان، الذي وجه باتجاه الجهة البعيدة المخفية، فسلط ذلك البائع لسانه السليط علي: "ما فيه ثقة أخوك يعني"، فرددتها بابتسامة، وقلت له: "شوف أخوك، لا تثق لا في بائع الخضار ولا السمك ولا اللحوم ... فكلهم يغش حتى أخاه عندما يبيع له" - وهذا ليس تعميماً على الجميع أستغفر الله، لكنه اجتهاد مني، ومحاولة لقراءة تفشي ظاهرة غش عامة ضمن فئة من الباعة أو التجار تتهددها دائماً خطورة رداءة البضاعة وسرعة فسادها، مما يدفع البعض بسرعة لامتهان الغش وتحويله إلى ممارسة عادية مستساغة وعامة -، حينها تفاجأت خلفي بقهقهات عالية وشخص يقول: "صدقت أخوك"، إلتفت فإذا به أخو البائع نفسه.

فشهد شاهدٌ من أهلها ... وكفى الله المؤمنين شر القتال.

وفي الأخير هنا، فلعلنا نستطيع استخلاص الحكمة وأخذ العبرة مما سبق، فالقضية ليست قضية أفراد يكتنزون شراً لا يمكن تفسيره ولا تعليله ولا التحكم فيه ومعالجته، ليكون التخلص منهم والتشفي والانتقام وحده، كما يفهم البعض ذلك، هو خلاص الأمة الوحيد وحده، بقدر ما هي قضية معادلات معقدة تحتاج منا رقياً في التفكير ووعياً ونضجاً، لنسير في الاتجاه الصحيح لبوابات الحل. فالحل هنا كامنٌ في النهاية بالطبع وفق الرؤية الناضجة والواعية التي أحسبها كذلك، في معالجة، مفردات الثقافة الهامة الحاكمة للأمة، والعادات والتقاليد المسيطرة على المجتمع، والقوانين والنظم المسيطرة على الاقتصاد والسياسة، والتقنيات والعلوم وتطبيقاتها المتاحة والممكنة وتأثيراتها ... الخ، وفق خطوات معقدة وطويلة المدى غالباً، خصوصاً في المجتمعات التقليدية والبدائية والمتخلفة، لا في مجرد ذوات الأفراد والطغاة والمجرمين المبهمة النازلة من عوالم ما ورائية غيبية، يختصر البعض فيها كل شيء، لتصبح طينتهم - أي أولئك الطغاة والظلمة - الشريرة هي مصدر العلل، والخلاص منهم، هو خلاص الأمة، وفرحها الكبير، ومصدر عيدها. والفرق هنا واضحٌ وجليٌ طبعاً بين التفكيرين والإرادتين. فالأول، مولدٌ لمعادلات هامة جديدة كبرى تغير واقع الأمة. أما الثاني، فيتجه بغباء وانفعال، باتجاه الانتقام والتشفي والانقلابات الثورية الفوضوية الناجمة عن الاحتقانات والغضب، والبعيدة كل البعد عن التخطيط السليم والموضوعية.

يقول الحديث الشريف - الذي يضعفه، ويكذب مضمونه البعض - : "كما تكونوا يول عليكم" ... ونسأل الله في الأخير أن لا يولي علينا إلا خيارنا ... وقد اتضحت المعادلات هنا في النهاية كما أتمنى وأرجو ... فكفى هنا ... والسلام خير الختام.