الشيخ علي المرهون(رح): إضاءة في زمن الظلام

 

 

لم آتي هنا اليوم، لأتذكر الشيخ علي المرهون - رح - (رجل الدين)، الذي عرفناه بعمته وبزيه الديني، وبتلك الطقوس الدينية الشيعية المعروفة عندنا، والتي تشحن الشخصية الشيعية الدينية، بتيارات عارمة من المشاعر والعواطف الإنسانية، في مناسبات أفراح أهل البيت وأحزانهم، وبتلك المعارف الدينية، التي كان يبثها في مستمعيه لتعينهم على أداء الطاعات الدينية ... الخ. رغم ما في ذلك من فخر وتفاضل وتميز. إنما جئت هنا لأتذكره بصفة أخرى من صفاته المميزة، وهي أنه، رجلٌ فذ من رجالات (قطيفنا) الغالية، وواحتنا الطاهرة في جزيرة العرب، أفرزته مرحلة ما قبل: (السيارة والتلفاز والستلايت والتقنيات الحديثة والحضارة العصرية ... الخ)، تلك العوامل التي أثرت في سلوكيات ومعارف وثقافة الكثيرين منا، فهدمت بعض أو الكثير من القيم الدينية والقيم الموروثة والتقليدية السابقة، فولد ذلك الشيخ الجليل من خلال ما في المرحلة السابقة من خصوبة ونقاء وطهر، وتميز (رح) بين الأهل والأقران البسطاء والطيبين بكل نقائهم، بما حمل من قمة أخلاقهم وجواهرهم، بتواضعه الجم وقلبه الكبير وحبه العارم للناس جميعاً وبعده عن الفتن ومواضع الخلاف وخلقه الراقي وحضوره الرائع بيننا جميعاً.

نعم حينها، في ذلك الزمان ونهاياته، وبدايات عصرنا الراهن، شهدناه في نهايات تلك المرحلة، وحين كنا حوله جميعاً كأبنائه ببساطتنا، حيث كان بيننا كذلك أيضاً أباً وأخاً ومربياً، بقلبه وحبه وخلقه وروحه الطاهرة، كشمعة مضيئة وشمسٍ مشرقة، ولدت في زمن أبائنا الفلاحين البسطاء، وسكنت في الليالي المظلمة والباردة شديدة البرودة، بين بيوت السعف والطين وتلك النخيل الباسقات، اللات أظلتنا وغذتنا، لتبعث شخصيته فينا الدفىء، ولترسل النور لتبدد الظلام، ممتدة لنا من ذلك الزمان، إلى هذا الزمن الجديد، الذي رغم غناه وروعته وتقنياته الباهرة وثرواته الضخمة، إلا أنه افتقد بلا شك لبعضٍ بل ربما لكثيرٍ من الأشياء الثمينة، وعلى رأسها: روعة الأقدمين في زهدهم وبساطتهم وتكاتفهم وحبهم لبعضهم البعض.

في كل زمانٍ طبعاً، هناك علماء دين وخطباء، وهناك مثقفون، وهناك كفاءات متميزة ورائعة في أغلب المجالات، وهي جميعاً مصدر فخر واعتزاز وإلهام لنا جميعاً، وتستحق منا جميعاً، الثناء والشكر والتكريم، بلا شك. لكنها في المجتمعات المتخلفة، قد لا تجد ذلك. وهذا ما يحصل بالضبط، في المجتمعات الإسلامية والعالم العربي، حتى اليوم.

وفي هذا السياق، في كل مرة أدخل فيها لمتصفح جوجل العظيم، فأرى ذلك التنوع الواسع في الاحتفاء هناك في ذلك المتصفح، بمختلف أنواع الإبداع والفن والعلم ... الخ، أضع نفسي في تلك اللحظات أمام نواقصنا، تلك خصوصاً المتعلقة بالإشادة بمختلف أنواع العلم والفن والفنون والتميز في المهن والإبداع والممارسات والفعاليات. فأقول في نفسي: "تلك أمة تقدمت وسمت، ولها مذهبٌ في التكريم، لكل ما هو جميل ومبدع، ليس كمذهبنا نحن العرب والمسلمين، ونحن أمة أخرى، لم تعرف بعد كيف تقدر المبدعين والمتميزين في كل علمٍ ودورٍ وخلقٍ وفن".

إن جل اهتمامنا نحن العرب والمسلمين في التكريم وإحياء المناسبات، ينصب في ميدان الدين والرموز الدينية ورجال الدين. ولم نخرج عن هذا الإطار حتى اليوم، إلا قليلاً. وهذا ما يجب أن نؤكد عليه ونتذكره اليوم، لنجدد الدعوة لتجاوزه، ولنتوسع بعدها في التجاوز، نحو الأفق الرحب، للاحتفاء والتكريم.

ولا شك عندي هنا، أن الشيخ علي المرهون(رح)، لم يكن فقط رجل دين، ولا فقط هادياً في طريق النصوص والممارسات والطقوس الدينية، كي لا نتذكره إلا بذلك فحسب. فقد كانت في الفقيد الراحل تعطرت روحه، جوانب أخرى مميزة ومضيئة، كان رمزاً لها وشاهداً عليها، وهي جديرة بالاحتفاء والإشادة. فقد كان (رح)، نبضاً حياً وقلباً متوهجاً وحباً عطراً وخلقاً سامياً. وهذا بلا شك يستحق منا، التذكر والتذكير والتكريم.

إننا اليوم في هذا الزمن، وفي ظل مدنيتنا الحاضرة والمعاصرة، وما يشوبها من إشكالات، في الزمن الصعب. الذي رغم محاسنه، لا يمكن أن نغفل عيوبه ومثالبه. فهو زمنٌ: تفشت فيه المخدرات، وأدهشنا بمخازي السطو المسلح، وترويع المجرمين للأبرياء، زمنٌ تقطعت فيه العلاقات، وتفتتت فيه الأسر، واستغنى الناس فيه عن روابطهم وعلاقاتهم الأسرية والاجتماعية، بأرصدة في البنوك محمية، وبتأمينات طبية خاصة بهم لطبابة أجسادهم وأجسامهم، أو فرص علاج في بعض تلك المستشفيات الحكومية، تكفيهم الحاجة لدفىء ومعونة الأهل والأقرباء والأصدقاء، وبسيارات وخادمات وسائقين كلهم في الخدمة، وبجدران من الحديد والإسمنت كلها في الحماية ... الخ. أغنت الناس جميعها عن حاجتهم لروابط وحصون المحبة والمودة القديمة، التي تربطهم مع الأهل والأقرباء والأصدقاء وغيرهم.

وفي هذا الزمن المر بعوراته رغم تحضره، يجب أن نتذكر تلك الرموز النيرة الوضاءة بالحب، والقلوب الطاهرة البريئة، وأولئك السائرين على سبيل الله القويم، وطريق تهذيب النفس والأخلاق، وتطهير الروح والسلوك. لعلنا نستلهم من هؤلاء، ونقتبس من نورهم ومعانيهم، ما يضيء الحياة، في الزمن المظلم. فالمدنية والحضارة بلا حب ... لا تمتلك أية قيمة حقيقية من قيمة الحياة. لأنها في حقيقتها، جمادٌ وموتٌ فقط، في صورة الحياة، إذ لا حياة حقيقية في ذلك الموت المتمدن.

وإننا هنا ونحن نتذكر اليوم، الشيخ علي المرهون(رح)، إنما نتذكر أنه هو في حقيقته الحياة، رغم موته (المادي)، وبعده عنا، لنبصر بهذا التذكر، حقيقة أننا اليوم هنا ونحن أمام كثيرٍ من الأحياء الذين ماتت قلوبهم ومشاعرهم وشغلتهم الماديات والتنافس المريض والمفرط بالأنا والأنانيات وبالأهواء والشهوات المريضة المفككة والمفتتة للمجتمع، إنما نحن أمام من هم أمواتٌ لكنهم في ظاهرهم في صورة الأحياء والحياة. وهنا عند هؤلاء بلا شك يموت الفرد والمجتمع.

وهنا، عند هذه اللحظة، عندما نحيي هذه الصورة المشرقة للشيخ المرهون، ونتذكر هذا الرمز العظيم للحب والخلق الكريم والفضيلة المتعالية، فإننا نكون في الحقيقة، أمام فرصة حقيقية للحياة واستعادة الحياة، والخلاص من عوراتنا المعاصرة، خلاصتها هي استلهام الحب والتواضع والأخلاق السامية والسمو بالإنسان والإنسانية ... والسلام.