الكفاءات في حاضنة الحب

 

 

يعاني العالم الثالث عموما والعربي خصوصا من بيئة فاسدة طاردة للكفاءات مما يعيق عملية التنمية الحقيقية لعدم الاستفادة المثلى من أهم عناصرها وهو الموارد البشرية.

لقد أصبح نزيف الأدمغة Brain Drain أو ما يعرف تخفيفا بهجرة العقول أحد المواضيع الهامة التي تستأثر بالبحث والنقاش في الدوائر العلمية والمؤتمرات والندوات نظرا لخطورة استمرار هذا النزيف وآثاره السلبية الكبيرة على مجمل الأوضاع العلمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.

تقول إحدى الإحصائيات إن( 50%) من الأطباء ، و( 23%) من المهندسين ، و( 15%) من العلماء من مجموع الكفاءات العربية يهاجرون إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وكندا . ويسهم الوطن العربي في ثلث هجرة الكفاءات من البلدان النامية خـصوصاً أن ( 54%) من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يعودون إلى بلدانهم . ويشكل الأطباء العرب العاملون في بريطانيا نحو( 34%) من مجموع الأطباء العاملين فيها .


أرقام مخيفة بلا شك، والأسباب عديدة لسنا بصدد تفصيلها هنا، لكن يجمعها عنوان واحد هو البيئة الفاسدة التي تمارس وأد الكفاءات بأنظمتها وبيروقراطيتها ومحسوبياتها وغير ذلك.

الكفاءات تنمو في حاضنة الحب.

هذا أحد الدروس الذي نتعلمه من أئمتنا حين نطالع سيرتهم مع أصحاب الكفاءات والقابليات الذين عاصروهم ونهلوا من علومهم.

أبان بن تغلب هو واحد من تلك الكفاءات التي حظيت بحاضنة الحب فنمت وترعرعت. صحب أبان ثلاثة من الأئمة : الإمام علي بن الحسين السجاد، والإمام محمد بن علي الباقر، والإمام جعفر بن محمد الصادق.

وكان كما يقول من كتب عنه مقدما في كل فن من العلوم: في القرآن والفقه والحديث والأدب واللغة والنحو. ويكفيه فضلا ما ذكر من سيرته أنه روى ثلاثين ألف حديث عن الإمام الصادق.

تنوعت رسائل الحب التي كان يتلقاها هذا الرجل الكفء من الأئمة عليهم السلام، وكانت تمثل بحق شهادات وأوسمة لا تقدر بثمن، وبالتالي كان لها مفعولها في تنمية تلك الكفاءة العظيمة.

قال له الإمام الباقر وهما في المدينة المنورة: اجلس في المسجد وأفتِ الناس، فإني أُحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك.

ما أعظمها من شهادة من حكيم خبير تعطي التفويض المناسب للشخص المناسب، وتشجع الآخرين على الاحتذاء بهذا النموذج الرائع.

وقال له الإمام الصادق في شهادة مماثلة: يا أبان! ناظر أهل المدينة، فإنّي أُحبّ أن يكون مثلك من رواتي ورجالي.

وقال‌ الصادق‌ لسليم‌ بن‌ أبي‌ حبّة‌: إئْتِ أَبَانَ بْنَ تَغْلِبَ فَإنَّهُ سَمِعَ مِنِّي‌ حَدِيثاً كَثِيراً! فَمَا رَوَي‌ لَكَ فَارْوِهِ عَنِّي‌!

هناك نوع آخر من التعبيرات الحاضنة للكفاءة بحب.

فكان‌ إذا دخل‌ أبان‌ علی الصادق‌ عليه السلام يعانقه‌ ويصافحه‌، ويأمر بوسادة‌ تثنى له‌، ويُقبل‌ عليه‌ بكلّه‌.

وتواصلت تعبيرات الحب حتى بعد رحيل أبان. فقد عبر الإمام الصادق عن حزنه الشديد لفقد شخصية مرموقة ذات كفاءة عالية، فقال : أَمَا وَاللَهِ لَقَدْ أَوْجَعَ قَلْبِي‌ مَوْتُ أَبَانٍ.
هكذا عاش أبان في بيئة حاضنة للكفاءات، وهكذا كان أئمتنا عليهم السلام يفعلون مع أبان وأمثاله، فلنتعلم منهم درس الحب الكبير المشجع والمحفز لكل ذي كفاءة حولنا.

دمتم بحب.. جمعة مباركة.. أحبكم جميعا.

شاعر وأديب