مقاومة الفصل العنصري


 

 

ردا على السياسة المنهجية للفصل العنصري البغيض الذي كانت تمارسه السلطات الاستعمارية في جنوب أفريقيا، والذي أدى إلى استيلاء القلة البِيض على جميع الأراضي الصناعية والزراعية تقريبا، وكذلك الأراضي السكنية ذات القيمة العالية، وإلى جعل الأغلبية غرباء في وطنهم يجمعهم التمييز الذي جلب معه الاكتظاظ السكاني والفقر والجوع والمرض؛ دعا بكسلي كا إيساكا عام 1912 الأفريقيين جميعا لنسيان خلافات الماضي ومواجهة المرحلة العصيبة والدقيقة التي يمرون بها، معتبرا الفرقة والتشرذم أساس كل المصائب التي حلت بجنوب أفريقيا.

استجاب لدعوته منظمات شعبية وكنسية وشخصيات مستقلة، وتم إعلان تأسيس حزب المؤتمر الوطني الأفريقي للدفاع عن حقوق وحريات الشعب في جنوب أفريقيا.

اعتمد الحزب في البداية على الحوار كمنهج للمطالبة بالحقوق، واستمر في ذلك فترة العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، إلا أن ذلك لم يقدم شيئا يذكر نظرا لتجاهل السلطات وكذلك بريطانيا هذه المطالبات. نشط في تلك الفترة المنظمات الاشتراكية، وكانت هي الأكثر حراكا وشعبية.

ولكن في النصف الثاني من الأربعينات تغير الحال بتشكيل رابطة شبابية داخل حزب المؤتمر الوطني، والتي كان من أعضائها نيلسون مانديلا. لعبت هذه الرابطة دورا كبيرا في تغيير سياسة الحزب المحافظة إلى سياسة أكثر راديكالية. ركز الشباب على المقاومة السلمية من خلال الاحتجاجات الواسعة والعصيان المدني.

تم إطلاق حملة "التحدي" لكسر قوانين وأنظمة الفصل العنصري في عصيان مدني واسع. سار "غير الأوروبيين" عبر المداخل المخصصة لـ"الأوروبيين فقط" وطلبوا الخدمات في مكاتب البريد المخصصة لـ"البيض فقط". وكسر الأفارقة قوانين التنقل العنصرية، كما قام الهنود و"الملونون" والـ"متطوعون" البيض بدخول البلدات الأفريقية بدون الحصول على تصاريح. وقد شجع نجاح حملة التحدي هذه على المزيد من الحملات ضد قوانين الفصل العنصري.

نجحت الحملة، وشجعت بالتالي على القيام باحتجاجات أخرى. كما ساهمت بتحقيق وحدة أكبر بين الأفريقيين، الأمر الذي أدى إلى ولادة ما عرف بميثاق الحرية الذي لخص رؤيته فيما يلي:

نحن شعب جنوب أفريقيا، نعلن للجميع في بلادنا، ونريد للعالم بأسره أن يعلم؛ أن جنوب أفريقيا هي ملك لكل من يعيش فيها، السود والبيض، وأية حكومة لن تستطيع ادعاء ممارسة السلطة دون الاستناد إلى إرادة الشعب كله؛ ولما كان أبناء شعبنا قد حرموا من حقهم الطبيعي في الأرض، وحرموا من الحرية والسلام من قبل حكومة وجدت على أساس الظلم والإجحاف؛ ولهذا لن تكون بلدنا مزدهرة وحرة حتى يعيش شعبنا بأخوة فيما بينهم، ويتمتعون بحقوق متساوية وفرص متكافئة ؛ وهذا لن يكون إلا في دولة ديمقراطية مبنية على إرادة الشعب بكامله؛ دولة تستطيع تأمين الحقوق الطبيعية للناس بدون تمييز بسبب العرق أو اللون، الجنس أو المعتقد. ولهذا؛ نحن شعب جنوب أفريقيا، البيض والسود، وعلى قدم المساواة مع كل إخوتنا في الوطن، نعلن تبني ميثاق الحرية هذا، ونحن نتعهد بالكفاح موحدين معا؛ ولن تعوزنا الشجاعة ولا القوة حتى ننتصر وتتحقق التغييرات الديمقراطية على أرض الواقع.

في العام 1960 أطلقت حمل للاحتجاج على تصاريح العبور، حيث طلب من الناس ترك تصاريحهم في البيوت والتجمع عند مراكز الشرطة ليتم اعتقالهم. لم تتحمل الحكومة ذلك، فقامت بفتح النار على المحتجين في شاربفيل في 21 مارس 1960 وقتلت 69 شخصا وأصابت العشرات. وتم على إثر هذه المذبحة فرض حالة الطوارئ واعتقال الآلاف وحظر حزب المؤتمر الوطني الذي دخل بعد ذلك في مرحلة ثالثة بعد مرحلتي الحوار والمقاومة السلمية، حيث كان الكفاح المسلح. لاقى الكفاح المسلح الكثير من الصعوبات نتيجة لعدم تكافؤ القوى ولكون جنوب أفريقيا محاطة بدول مستعمرة مما يجعل التجنيد والتدريب أمرا في غاية الصعوبة.

في السبعينات عاد النشاط للمقاومة الشعبية اللاعنفية من جديد، حيث بدأت الإضرابات العمالية المطالبة برفع الأجور، تلتها الاحتجاجات الطلابية الواسعة التي أشعلت انتفاضة في كافة أنحاء البلاد وفي جميع القطاعات تقريبا خلفت قرابة ألف قتيل. أجبرت هذه الانتفاضة النظام ولأول مرة على إطلاق وعود بالإصلاحات التجميلية التي لا تمس الجوهر فيما أسماه بمعركة كسب القلوب والعقول، وهي معركة تعتمد على الإصلاح السطحي والقمع أيضا، أي الترغيب والترهيب.

رفض الناس الإصلاحات الشكلية، واتجه الناس في الثمانينات لتأسيس المزيد من منظمات المجتمع المدني الطلابية والنسوية والعمالية وغيرها، وكان هناك المزيد من الاحتجاجات. وفي العام 1985 دعا حزب المؤتمر الوطني إلى التخلص من إدارات الحكم المحلي المتعاونة مع السلطات العنصرية، فتصاعدت وتيرة العصيان المدني، وأعلنت حالة الطوارئ وقامت الحكومة باعتقال أكثر من ثلاثمائة ألف شخص.

في عام 1990 اضطرت السلطات وتحت ضغط الشارع والمنظمات الإقليمية والدولية لإلغاء الحظر عن حزب المؤتمر الوطني ليتم انتخاب نيلسون مانديلا رئيسا للحزب، وليكون ذلك بداية النهاية للخلاص من نظام الفصل العنصري الفاسد في عام 1994 م.

يمكننا أخيرا أن نستنتج بأن خيار المقاومة اللاعنفية كان هو الفيصل في حسم المعركة ضد الفصل العنصري.

حديثنا القادم سيكون عن نيلسون مانديلا.

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 2
1
هاشم الهاشم
[ أم الحمام - القطيف ]: 28 / 3 / 2012م - 2:00 م
الأستاذ الفاضل/ أبو أحمد .. حفظك الله .. قد يكون خيار "المقاومة اللاعنفية" كخيار وحيد أو كما ذكرتم بأنه الفيصل في حسم المعركة -(وما أكثر المعارك)- خياراً لا يوصل إلى الأهداف المنشودة (حكم الشعب , الحرية , الديمقراطية , السلام ...) فمن الملاحظ أن شعوب جنوب أفريقيا لم تصل إلى أهدافها إلا بعد صراع مرير وطويل ومتنوع مع السلطات الاستعمارية الأوربية وإرهاصات نيل الحقوق بدءاً من تأسيس حزب المؤتمر واعتماد سياسة الحوار ومن ثم تشكيل الرابطة الشبابية والأخذ بمنهج الرديكالية مروراً بالاحتجاجات والعصيان المدني وكسر القوانين وولادة ميثاق الحرية والاعتصامات أمام المقرات الأمنية الحكومية انتهاءً بالكفاح المسلح ومن ثم المقاومة الشعبية اللاعنفية والاضرابات وتأسيس منظمات المجتمع المدني..إذاً العملية متكاملة.
2
هاشم الهاشم
[ أم الحمام - القطيف ]: 29 / 3 / 2012م - 11:42 ص
يتبع .. إذاً العملية متكاملة ومتراكمة عبر عقود من الزمن الصعب والمحاولات الجادة للتغيير للصول للأهداف الكبرى , ورحيل أجيال وأجيال أخذت على عاتقها نضال المستعمر ومجابهة الظلم والعدوان بكافة السبل المشروعة النبيلة التي كفلتها القوانين السماوية والدساتير الأرضية .. إن عملية التغيير الاجتماعي ترتكز على عدة عناصر أساسية أو بما يسمى (مراحل التغيير الاجتماعي) والتي تتمثل في:أولاً: مرحلة التشخيص وتحديد المشكلة وثانياً مرحلة التخطيط ووضع الأهداف وثالثاً مرحلة التهيئة والتنفيذ ورابعاً مرحلة التقييم والمراجعة وخامساً مرحلة التقويم والإصلاح .. الأمر الذي يتطلب وجود كفاءات قيادية واعية وشجاعة , وكوادر عمالية مخلصة ومبصرة , وبيئات حاضنة وداعمة .. وختاماً تبقى المقادير والأحداث بيد الله سبحانه وتعالى.
شاعر وأديب