الفلول والثورة المضادة

 

 

 

يوشك الربيع العربي أن يكمل عامه الثاني ، إنها الأحداث التي اشرأبت لها أعناق العالم لتشهد إعلان الصباح بزوغ فجر جديد ، فجر لم يَقدهُ الضباط الأحرار وإنما قادته الشعوب هذه المرة لتفجر كل خيبات أملها على شكل ثورة بيضاء لم تنحني للبطش والإرهاب  وأطاحت بعروش أنظمة ديكتاتورية تسلطت على رقاب الشعوب لعقود من الزمان.

حماسة عامة الناس لتغيير الأنظمة الفاسدة بصورة جذرية وسريعة اصطدم بواقع مرير ومحبط ، فرغم سقوط رؤوس تلك الأنظمة إلا أن حضورها ما يزال موجوداً في مختلف مفاصل السلطة أو مؤثراً بطريقة تُشعل فتيل ممانعة التغيير فيما وصف لاحقاً بالثورة المضادة ، ورغم استخفاف البعض بتأُثير الثورة المضادة - خصوصاً بعد الشعبية التي حققتها بعض الأحزاب والجماعات بعد الربيع العربي - إلا أن قدرة بقايا الأنظمة السابقة أو الفلول على تنظيم صفوفها من جديد أثار الدهشة والتساؤل على كيفية قدرة هؤلاء العودة مجدداً إلى الساحة بأساليب مختلفة ومؤثرة بعد أن اكتسحت الثورة تلك البلدان واحتلت مقاماً عالياً واعتزازاً وفخراً لدى مواطنيها بمثل هذا المنجز.

على مدى العقود الماضية ، نجحت الأنظمة العربية عموماً ليس في فرض سيطرتها على المشهد السياسي فقط ، وإنما في السيطرة أيضاً على الحياة العامة بمختلف تفاصيلها الدقيقة بغرض إعادة توجيهها لتصب في مصلحة النظام والحفاظ على استقراره ، واستطاعت بذلك عزل وتحييد معظم أشكال المعارضة لتصبح ضعيفة التأثير وشكلية في كثير من الأحيان ، في المقابل نجحت الأنظمة كدائرة استقطاب في جذب شريحة واسعة من مختلف أطياف المجتمع وطبقاته ، الذين وجدوا في انتمائهم لهذه الدائرة تحقيقاً لمصالحهم الشخصية المتمثلة في حصولهم على المال والسلطة والوصول إلى الواجهة الاجتماعية النخبوية من خلال البقاء ضمن دائرة الاستقطاب ، وبهذه الطريقة نجحت الأنظمة في خلق حزام من المنتفعين الذين وجدوا أنفسهم بعد الثورة إما مواطنين عاديين تم تجريدهم من كل الامتيازات التي كان يوفرها لهم النظام السابق، أو ضمن قائمة الفلول الملاحقة قضائياً أو إعلامياً على أقل تقدير ، اذا كانت الثورة هي ردة فعل على تسلط الأنظمة  واستبدادها فإن الثورة المضادة هي ردة فعل أيضاً على الثورة نفسها التي تحاول تجريد بقايا النظام من أي دور مؤثر من خلال تحقيق العزل السياسي من جانب والملاحقة القضائية من جانب آخر ، في الوقت  الذي تلعب فيه  التوازنات السياسية والتحالفات الإقليمية وتدخلات دول الجوار  دوراً هاماً في التأثير على سير الأمور في البلدان التي عصف بها الربيع العربي بما يحقق مصالحها  الخاصة أو مصالح إقليمية عامة بالإضافة إلى امتصاص وتخفيف التأثير المباشر لتلك الثورات على الأوضاع الداخلية في البلدان الأخرى.

على الجانب الآخر ، نجحت فلول الأنظمة السابقة في  اللعب على أوتار حساسة تملك فيها خبرات متراكمة على مر العقود الماضية ، أحد هذه الأوتار هو التحذير من محاولات تغيير هوية الدولة  المدنية إلى دولة دينية من خلال صعود الجماعات الإسلامية إلى سدة الحكم وفرض إيديولوجيتها الدينية في محاولة لتشويه صورة تلك الجماعات وإثارة مشاعر الكراهية  تجاهها لا سيما وأنها تملك سجل لا يمكن التغاضي عنه من العنف المستخدم تجاه الأنظمة السابقة خلال مراحل تاريخية معينة مما يؤدي إلى ترسيخ هذه الفكرة لدى شريحة  لا يستهان بها من عامة الشعب ، الأمر الذي حول الساحة السياسية إلى كيانات مقطعة وغير متحالفة مما وفر الأجواء المناسبة لبروز الفلول كأحد هذه القطع معتمدين على مهارتهم  في المناورة السياسية ليصبح هذا السبب الأبرز لبزوغ نجم الفلول بعد الاعتقاد بأفوله فعدم قدرة الثورات عموماً حتى الآن على إفراز قيادات جديدة قوية تستطيع التأثير في الشارع بصورة واضحة وتستطيع الحصول على ثقته من أجل الحفاظ على مكتسبات الثورة  هو أمر طبيعي إلى حد ما قياساً بالفترة الطويلة التي بقيت فيها الأنظمة السابقة في الحكم والتي عملت فيها على تحييد وعزل أشكال المعارضة والعمل على إضعافها ، فبعد كل تلك العقود من السيطرة وفرض الايديولوجيا فإنه من غير المتوقع أن تصل تلك الشعوب إلى القطيعة التامة مع هذا الإرث الثقيل من خلال القفز المباشر باتجاه ديمقراطية حديثة دون المرور بإرهاصات الفترة الانتقالية  الأمر الذي يتطلب المزيد من الوقت لإنضاج الثورة وتحقيق أهدافها الشاملة خلال سنوات ليست بالقصيرة .

إن هذا الجيل الذي أعاد الأمل إلى الشعوب العربية بإمكانية قيام حكومات تعاقدية تمثل إرادة الأمة وتعمل على تحقيق مصالحها هو جيل لا يُخشى عليه من الارتماء في أحضان الأنظمة السابقة وبعثها مرة أخرى على طريقة متلازمة ستوكهولم ، لأن النظام القادم أياً كان نوعه سيأتي بإرادة الشعب وعن طريق صناديق الانتخاب بالإضافة إلى أن جذور الاستبداد التي كانت تمنع التغيير انهارت وتفككت وضعفت – حتى وإن حاولت إعادة تشكيل نفسها مرة أخرى - وبالتالي فإن أي  قوى جديدة تحاول الاستبداد بالسلطة مجدداً سوف تواجه مقاومة شديدة وربما ثورة أشد قسوة من الثورة الحالية.

معلم حاسب