الحرية الدينية(1): بين سندان (التدليس) و مطرقة (الإستبداد السلفي)

 

 

 

هي رأس كل الحريات، و أهمها، يسعى الإنسان إلى امتلاكها والتمتع بممارسة طقوسها ومعتقداتها، بصفتها جزءا أصيلاً في وجوده، من دون أن يكون هناك ما يمنعه أو يكرهه على هذا الحق الطبيعي، المكفول من جانب الأديان والشرائع الإنسانية منذ أصل الوجود الإنساني.

و راحت (الحرية الدينية) ضحية سلفيتين، السلفية الدينية و التي تحاول تطبيق معتقدها بالقهر و الإكراه، و السلفية العلمانية التي تقمع اي مظهر من مظاهر الدين و تجرم عليه. والسلفية الدينية المتشددة تسعى إلى تحريم كل شيء والسلفية العلمانية تسعى إلى التحلل الكلي من كل شيء وإلى تخطي كل الحواجز الدينية والأخلاقية والقانونية وإلى إشاعة الرذيلة والمحرمات وإشاعة ثقافة الفساد.

و في مقالتي هذه و التي ستنشر على جزأين أناقش فيها الحرية الدينية على ضوء الإسلام، و أبين من خلالها كيف يكفل الإسلام الحرية الدينية بصورتها الواسعة و الشاملة بما يحفظ كرامة الإنسان و كينونته.
 

الحرية الدينية:

و الحرية الدينية هي حق اختيار الدين، وطريقة التدين أيا كان. من دون منع بأية وسيلة من الوسائل الإكراهية، المجبرة على الضد.

و تنص المادة 18 في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن "لكل إنسان حق في حرية الفكر والوجدان والدين ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره".

و قد سبقت التعاليم الإسلامية قبل مئات القرون الأمم المتحدة في إقرار هذه الحرية، حيث يُصرح بذلك القرآن الكريم بقوله تعالى ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ[1]، و في الآية ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [2]، و في قوله تعالى﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ[3]، و كذلك في قوله عز من قال ﴿وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ[4].

 
وعلى هذا فالإسلام لا يٌرغم أحداً على اعتناق عقيدة معيّنة، ولا يُكره غير المسلمين على اعتناق عقيدته ليكونوا مسلمين، وإنما كان يدعو الناس إلى دين الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، ويدعو إلى استعمال العقل والنظر فيما خلق اللـه من أشياء، ويقول لكل إنسان: إن شئت السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة فعليك أن تعتنق الإسلام عن رغبة واختيار، كما قال سبحانه: (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الاَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[5]، لكن الإكراه شيء والترغيب شيء آخر، ثمة فرق قصي بين الاثنين لا يمكن التغاضي عنه.

فقد ترك الإسلام للإنسان الحرية الكاملة لاختيار آرائه وأفكاره وعقائده التي يرتضيها لنفسه حيث خلقه مختارا وخلق لـه العقل، ولذا يقول سبحانه: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ الْغَيّ).

والنبي (صلّى الله عليه وآله) لم يجبر أحداً على تغيير عقيدته، كما أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يجبر أحداً على ذلك، والكل يعلم أن الرسول (صلّى الله عليه وآله) استولى على عدة دول كانت مشركة أو يهودية أو مجوسية أو مسيحية فلم يجبرهم على تغيير دينهم، و كان دخول غالب تلك الدول التي تحت يدي المسلمين جاء بالاختيار بعد قناعة منهم.

أرأيت لو آمن شعب بالله لان السلطة السياسية فيه أجبرته عليه ، هل هذه حرية أم استعباد ..؟ بالطبع استعباد ، لان هذا الشعب سوف يكفر بالله لو أن السلطة السياسية أمرته بالكفر . من هنا تحدث القرآن في بداية الحديث عن الحرية الدينية وقال : لا إكراه في الدين[6] .

وتبعا لهذا المعطى المهم، فإن لكل إنسان الحق في اختيار عقيدته، وما يدين به وفق أي تصور يتماشى مع المنظور الديني، الذي ينطلق منه، وتطوير حياته تبعاً لهذه العقائد حسب فهمه واختياره.

فالتدين عبارة عن معتقدات وقناعات روحية، خارجة عن حد الجبر والإكراه، فلا تقع تحت هيمنة خارجية، بل إن فرض ما يراه بعض الناس دينا صحيحا، على آخرين لا يرونه كذلك، لا يعود عليهم بتقبل هذا الدين، والانتساب إليه، إنما النفور منه، ومعارضته..كذلك حربه والسعي في إطفائه.

يقول المرجع المدرسي(دام ظله) في التشريع الإسلامي: إن المحافظة على الحرية الدينية، بل على الحرية بصفة عامة (والتي تتنافى وصفة الاستضعاف)؛ إنها واجبة شرعاً لمن استطاع، وإلاّ فهو ظالم لنفسه، تنهره ملائكة الموت عند قبض روحه .. فالحرية، وبالذات الحرية الدينية من القيم السامية، التي يجب على الإنسان الهجرة من اجلها .

وفي هذا المجال يقول المحقق الحلي في كتاب الشرائع: " وتجب الهجرة عن بلد الشرك، على من يضعف عن إظهار شعار الإسلام".
 

حرية الدين.... بحرية الاختيار:

و التضليل هو أحد الأساليب التي يلجأ إليها البعض في سلب قناعات الإنسان و معتقداته، و ذلك أن يقوم الداعية بالتدليس و الكذب على الأديان الأخرى لإقناع الناس بدينه و عقيدته.

و التدليس في اللغة كتمان عيب السلعة في البيع وقد يقال إنه مشتق من الدلس وهو اختلاط الظلام واشتداده وجه التسمية به سمي به لاشتراكهما في الخفاء.
والمقصود من التدليس : أن تقوم عند نقلك لكلام ما بإخفاء جزء منه مما ترى أنه سيضر بما تحاول أن توهم به الآخرين.

و المدلس غاش لنفسه و لغيره، و مضلل لنفسه و غيره، أسيراً لمعتقداته الكاذبة، و هنا لابد من أن يتصدى مجموعة من الأحرار لفضح الكذب و التدليس و تحرير العقول لتنفتح نحو العلم و الحقيقة دون حاجب يحجبها أو يمنعها عنها.
 

حرية التعبير و الدعوة الدينية:

كما حافظ الإسلام على حرية الرأي و التعبير، إنّ حرية التعبير عن الرأي في الإسلام يعود إلى معرفة مكانة الإنسان في الإسلام، ثم معرفة الحوار وضوابطه عن طريق احترام الإنسان الآخر الذي نتعامل معه كائناً من كان فلابد من الاعتراف به أولاً ثم صيانته لنصل إلى حرية التعبير عن الدين والدعوة إليه وهو المقصود من هذا كله، إذ لم يكتف الإسلام بأن يجعل الناس أحراراً في التعبير عما يدينون به من شرائع وأديان بل أباح لهم الدعوة إلى ما يرونه ديِناً بالإقناع فقط دون أي ضغط مادي أو أدبي على الناس المدعوين لهذه الأفكار.

فالإسلام يقرر أن إنسانية الإنسان هي رهن حريته إذ لا يمكن أن تتحقق إنسانيته بدون حريته؛ فإن تحكم الآخرين عليه باستعباده بغير صورة شرعية وتدخلهم في شؤون حياته فيه إلغاء لحقوقه، فهو من منطلق هذا يعيش حياته آمناً على نفسه وأهله ولا يخشى عدوان حاكم ولا بطش ظالم.

الإسلام واسع سهل، يحمل في طياته خطاباً شاملاً مستوعباً، وهو لا يريد الإكراه، للقاعدة المعروفة: (القسر لا يدوم)، وإنما يسعى إلى إعطاء الحرية لكل إنسان فيما يعمل بحسب معتقده، ويحاوره، قال سبحانه وتعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)[7].

يقول جولدتسيهر[8]: (سار الإسلام لكي يصبح قوة عالمية على سياسة بارعة، ففي العصور الأولى لم يكن اعتناقه أمراً محتّماً، فإن المؤمنين بمذاهب التوحيد أو الذين يستمدون شرائعهم من كتب منزلة كاليهود والنصارى والزرادشتية كان في وسعهم متى دفعوا ضريبة الرأس (الجزية) أن يتمتعوا بحرية الشعائر وحماية الدولة الإسلامية.. بل لقد ذهب الإسلام في هذه السياسة إلى حدود بعيدة، ففي الهند - مثلاً- كانت الشعائر القديمة تقام في الهياكل والمعابد في ظل الحكم الإسلامي).

إن الإسلام دينٌ يستوعب مبدأ التنوع في العقائد دون أن يكون لهذا التنوع أي مساس بالحقوق والواجبات الإنسانية، بل هذه الحقوق مكفولة بتكريم بني آدم، حيث قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)[9] ، ما لم يكن هناك خلل أخلاقي أو رادع ديني (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)[10].
 

صور للاستيعاب الإسلامي:

و نجد أن الإسلام لا يجبر أحد بأحكامه، بل يطبق ما يعتقد به الإنسان من أحكام، فقد ورد عن الإمام أبي عبد اللـه (عليه السلام): "من كان يدين بدين قوم لزمته أحكامهم"[11].

وقال : "ألزموهم بما ألزموا أنفسهم"[12].

وعن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي طالب عبد اللـه بن الصلت قال: كتب الخليل بن هاشم إلى ذي الرئاستين وهو والي نيسابور أن رجلاً من المجوس مات وأوصى للفقراء بشيء من مالـه فأخذه قاضي نيسابور فجعلـه في فقراء المسلمين، فكتب الخليل إلى ذي الرئاستين بذلك، فسأل المأمون عن ذلك، فقال: ليس عندي في ذلك شيء، فسأل أبا الحسن فقال : "إن المجوسي لم يوص لفقراء المسلمين ولكن ينبغي أن يؤخذ مقدار ذلك المال من مال الصدقة فيرد على فقراء المجوس"[13].

وعن علي بن إبراهيم عن أبيه عن الريان بن شبيب قال: أوصت ماردة لقوم نصارى فراشين بوصية، فقال أصحابنا: اقسم هذا في فقراء المسلمين من أصحابك، فسألت الرضا (عليه السلام) فقلت: إن أختي أوصت بوصية لقوم نصارى وأرادتُ أن أصرف ذلك إلى قوم من أصحابنا مسلمين؟ فقال (عليه السلام): "أمض الوصية على ما أوصت به، قال اللـه:(فَإِنّمَا إِثْمُهُ عَلَى الّذِينَ يُبَدّلُونَهُ)"[14]


[1] البقرة،256
[2] الكافرون،6
[3] الغاشية، 21 ـ 22
[4] الشورى،15
[5] آل عمران: 85
[6] من تفسير من هدى القرآن، آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي
[7] النحل/ 12
[8] مستشرق، مجري، يهودي، ولد في مدينة أشتولفيسنبرج في بلاد المجر في 22/6/1850 م = [1266 هـ] من أسرة يهودية ذات مكانة وقدر كبير.
[9] الإسراء/ 70
[10] الحجرات/ 13
[11] معانى الاخبار ص 263.
[12] وسائل الشيعة: ج26 ص158 ب4 ح32712.
[13] الحر العاملي، م.س، ج13، ص414.
[14] الاستبصار، الطوسي،ج4، ص 129.