هل يستفاد من الغيبة والإمام الغائب؟(2)

 

قبل أن نكمل الحديث عن ما ابتدأنا به من ذكر بعض الصور التي يمكن لنا أن نستفيد عبرها من وجود الإمام المهدي الغائب، نذكر مرة أخرى أن هذه النقاط هي نتيجة المزاوجة بين التأمل العقلي والدليل النقلي الوارد عن رسول الله وعترته الميامين. وبعد هذا البيان نكمل النقاط السابقة:

6) استمرار توقد شعلة العزة والكرامة والسعي لتغيير الواقع الفاسد وإصلاح الخلل في الأمة التي تؤمن بهذا الإمام، فالأمة التي لا ينقطع ارتباطها بالسماء و بوصي السماء، لا ينقطع رجاؤها وأملها في التغيير والإصلاح مهما قست الظروف واستحال النجاح، فلا مستحيل عند الله وعند أولياء الله. هذه النقطة أصبحت نقطة جلية و واضحة عبر ما رآه ويراه العالم من تاريخ شيعة أهل البيت في مجال مقارعتهم للباطل ومجاهدتهم للظلم والفساد، وبذلك لا نرى الآن من أعداء الشيعة -إلا السفيه- من يحتج عليهم بأن الغيبة سببت لهم العجز والفشل والخنوع أو أن عقيدتهم بالإمام الغائب هي ناتجة عن هذا السبب، ولكن للأسف يخرج علينا أحد أبناء هذه الطائفة من يقول بذلك متغافلا عن كل ما كتبه العلماء والمثقفون الإسلاميون في ذلك! فلا أدري أين هذا من الثقافة والإنصاف والأمانة العلمية؟! ألم يعلم هذا أن مجرد ذكر اسم الإمام المهدي(عج) كان كافيا لنجاح ثورة التنباك بقيادة الميرزا حسن الشيرازي(قده) ضد مطامع الاستعمار البريطاني؟!

7) الاختبار والتمحيص: قال تعالى: "أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنّا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين" (العنكبوت:2-3)، وقال سبحانه: "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب"(آل عمران:179). وعن الإمام موسى بن جعفر: "لا بد لصاحب هذا الأمر من غيبة حتى يرجع عن هذا الأمر من كان يقول به إنما هي محنة من الله عز وجل امتحن بها خلقه.." #0070c0" > (كمال الدين،للشيخ الصدوق،ص360 ح1) . 

ولعل من فلسفة هذا الاختبار والتمحيص هو معرفة مقدار ولاء الأتباع لكيلا ينقلبوا بسبب الاغراءات والترغيب أو الضغوط الكبيرة والترهيب في اللحظات الحاسمة، وهو ما قد يؤدي لنتائج خطيرة تفتك بآخر خلفاء الله على أرضه أو بقسم كيبر من أنصاره ويُفشل حركته النهضوية العالمية عند انطلاقها إذا لم تتحقق درجة مطلقة من الولاء في الغالبية العظمى من الأتباع لهذا القائد مهما كانت الظروف. هذا أمر ضروري لكل قائد ناجح، وتزداد درجة الضرورة كلما ازدادت أهمية القائد وحساسية مهمته وحجمها. 

8) التدخل العملي للإمام(عج): إضافة لما للإمام من ولاية تكوينية –على الكون- والتي لا تنقطع سواء كان الإمام حاضرا أم غائبا، فإنه يتدخل كذلك في بعض أمور العباد والبلاد بنفسه عندما تفرض الضرورة ذلك. فقد ورد في الروايات أنه(عج) يحضر الموسم-أي الحج- كل عام، وبالطبع فإنه يقوم ببعض المهمات عندما يحضر للحج كما ورد في الكثير من القصص المنقولة في الكتب المعتبرة عن إغاثته للمحتاجين، ودفعه للشبهات عن المرتابين، ولقائه ببعض العلماء والتقاة في الحج وغيره. كما ثبت أنه(عج) كان له الدور الرئيسي في بعض القرارات والتحركات التي كان لها الأثر البالغ والمستمر حتى اليوم، وسنأتي على ذكر بعضها في النقطة التالية إن شاء الله. وأيضا، لا ننسى أن نبي الله يوسف كان قد عاش في مصر وتولى أمرها وأنقذها من مستقبل مأساوي عبر سياساته الحكيمة لتلافي القحط وإدارة موارد الدولة بشكل متطور لم يعهد تلك الأيام وخلص شعبها من قبضة المتجبرين، وكل ذلك كان في أيام غيبته عن أهله وقومه وكان أهل مصر رغم قربها من موطنه الأصلي لا يعرفون أنه نبي الله يوسف ابن نبي الله يعقوبلعشرات السنين حتى كشف لهم بنفسه عن شخصيته الحقيقية، فهل يستبعد بعد هذا قيام الإمام المهدي(عج)بأدوار عملية مهمة أثناء غيبته؟

ورد عنه(عج)مخاطبا شيعته: "إنّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطلمكم الأعداء"( تهذيب الأحكام1: 38). وعنه(عج)أيضا: "وبي يدفع الله البلاء عن أهلي وشيعتي"(غيبة الطوسي:246)، فلا ننسى أن غيبة الإمام(عج) هي غيبة العنوان لا المعنوَن، مما يعني أنه حاضر بشخصه ولكننا نجهل شخصيته، وهذا ما نقرؤه في دعاء الندبة: "بنفسي أنت من مغيّب لم يخل منا، بنفسي أنت من نازح ما نزح عنا". وعن أبي جعفر: "لن تخلو الارض إلا وفيها رجل منا يعرف الحق فإذا زاد الناس فيه قال قد زادوا، وإذا نقصوا منه قال قد نقصوا،وإذا جاؤوا به صدقهم،ولو لم يكن ذلك كذلك لم يعرف الحق من الباطل"(كمال الدين،ص223 ح12).

وهنا ينبغي أن نشير إلى نقطة مهمة للغاية، وهي أنه متى ما وجد من يقوم بوظيفة ما غير الإمام-ولو كان شخصا واحدا فقط أو عدة أشخاص- فإنه لا يشترط أن يقوم الإمامبنفسه بهذه الوظيفة طالما أن الوظيفة مؤداة والنقص مسدود، وهذا يكون في زمن ظهور الأئمةأيضا، فمثلا كان هناك من ينوب عن الأنبياء والأئمة في إقامة الحدود والجهاد وتصحيح العلماء وغيرها من الأمور ولم يكونوا يقوموا بها بأنفسهم دائما، ولأن الغيبة في هذا الزمن مشددة، ففعل ذلك أولى. نعم، إذا لم يقم أحد بهذه الواجبات، فإنه لابد للإمام من أن يتدخل سواء بنفسه أو بتوكيل أحد الأشخاص مباشرة للقيام بها. وهذا ما ذهب إليه الشيخ المفيد(قده): "فمن وجد منهم]أي من الخلق[ قائماً بذلك ]أي حفظ الشرع ومراعاة الخلق في أداء ما كلّفوه [فهو ]أي الإمام[ في سعة من الإستتار والصموت، ومتى وجدهم قد أطبقوا على تركه، وضلّوا عن طريق الحقّ فيما كلّفوه من نقله، ظهر لتولّي ذلك بنفسه ولم يسعه إهمال القيام به" (المسائل العشر في الغيبة،الفصل السابع:هل وجود الإمام مغيّباً كعدمه؟).

هذا إضافة إلى أن الناس في زمن الغيبة الكبرى قد تراكمت لديهم أحاديث الأئمة من أهل البيت وهيئ العلماء لتولي "النيابة والوكالة" عن الإمام المعصوم من قبَل الإمامين العسكريين ومن ثم الإمام المهدي(عج)في زمن الغيبة الصغرى بشكل مكثف، فصارت لديهم آليات توصلهم إلى حل الكثير من المسائل دون الحاجة للتواصل مع الإمام(عج)للاستيضاح منه بشكل مباشر إلا في حالات قليلة. عن علي بن الحسينمتحدثا عن معاصري زمن الغيبة القائلين بإمامة المهدي(عج): "..الله تبارك وتعالى أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة" (كمال الدين،ص320 ح2).

9)  الدعاء والتسديد: وهذه النقطة أيضا تقع ضمن التدخل العملي للإمام(عج) إلا أني ارتأيت فصلها في نقطة مستقلة لبعض الأسباب. لقد كثرت الأخبار الموثوقة عن تسديد الإمام(عج) لكثير من الأحداث والقرارات التي تركت بصمتها الواضحة على الواقع حتى أصبحت من المسلَّمات التي لا يتطرق لها الشك. ونحن هنا نستعرض القليل منها من باب المثال لا الحصر أو التفصيل ومن أراد ذلك فليطلبها من مصادرها الكثيرة.

فمن ذلك: نقل أنه خرج توقيعه(عج) للميرزا حسن الشيرازي(قده) في فتوى أو كما تسمى ثورة التنباك الشهيرة، وتسديده(عج) للشيخ المفيد(قده) بعد تردده في الفتيا فتركت كتبه بعد ذلك أثرا كبيرا على الميادين العلمية لا زال ممتدا حتى اليوم بعد مرور أكثر من ألف عام! كما كانت له رسائل كثيرة للشيخ المفيد يخبره فيها عن بعض الأحداث التي تحققت قبل وقوعها وكيف يتصرف الشيعة فيها وإجابات عن بعض المسائل الفكرية والفقهية وغير ذلك. وكذلك دعاؤه المبارك الذي نتجت عنه ولادة الشيخ الصدوق(قده) الذي تركت كتبه أثرا كبيرا أيضا وأمره(عج)لهذا الشيخ بكتابة كتاب محدد بطريقة إبداعية حول الغيبة أسماه الشيخ فيما بعد "كمال الدين وتمام النعمة". وأيضا، يقول السيد محمد رضا الشيرازي(قده) في محاضرته المطبوعة بعنوان"الإمام المهدي(عج)إمام الرحمة" والتي نقلنا منها قصة الشيخ الصدوق السابقة: " السيد محمد تقي الاصفهاني رأى في عالم الرؤيا الإمام المهدي(صلوات الله عليه) يقول له: اكتب عني كتابًا باللغة العربية وسمه(مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم).. نقل أحد العلماء الكبار عن السيد الوالد(رضوان الله تعالى عليه)أنه تشرف بلقاء الإمام الحجة(عج) في مسجد السهلة فقال له: (اكتب)، وعندما عاد الوالد تفرغ للتأليف وترك كل البحوث التي كان يلقيها على طلابه،رغم الضغوط الشديدة عليه للعودة إلى التدريس"، وكان لأمره(عج) للإمام الشيرازي الراحل(قده) أثره الكبير حيث تمكن من تأليف قرابة الألف والثلاثمائة كتاب في مختلف المجالات والعلوم، ويستحق بذلك أن يعدًّ صاحب رقم قياسي عالمي في التأليف والنبوغ العلمي. وكذلك تقويمه(عج) لأستاذ الفلسفة الميرزا مهدي الأصفهاني(قده) عندما أخطأ. ونقل أيضا أن الشيخ الأعظم الشيخ مرتضى الأنصاري(قده) كان يلتقي بالإمام(عج) بشكل مستمر، وغير ذلك الكثير والكثير.

نريد أن نذكر هنا أن تسديد الإمام ولقاءاته(عج) لا تقتصر على علماء الدين فقط، بل حصل الكثير منها لأناس عاديين كبائع الأقفال مثلا، ولكن الصفات المشتركة بينهم جميعا كانت التقوى والإخلاص واليقين وصفاء القلب. وقد نقل المحدّث الثقة الشيخ حسين الطبرسي النوري(قده) 100 قصة عن من التقى بالإمام(عج) في زمن الغيبة في الجزء الثاني من كتابه النفيس "النجم الثاقب في أحوال الإمام الحجة الغائب"، وذكر أيضا 59 قصة في كتابه القيم "جنة المأوى في مَنْ فاز بلقاء الحجةفي الغيبة الكبرى" فراجعهما. وهذا الشيخ هو أستاذ الكثير من العلماء الفطاحل ومنهم: الشيخ عباس القمي، السيد عبد الحسين شرف الدين، الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، وآغا بزرك الطهراني وهذا يكفي لمعرفة مدى علمه وعظمته ووثاقته(قده).

10) رفع القتل عن نفسه وعن أنصاره وشيعته حتى وقت قيامه(عج): من الطبيعي أن أي قائد حكيم يحاول تقليل الخسائر قدر الإمكان في وقت الإعداد لحركته، وهذا ما فعله الإمام الحسن والإمام الحسين عندما هادنا معاوية لمدة عشرين عاما فحفظا بذلك عددا من الأنصار الذين ثاروا مع الإمام الحسين الذي زلزل دمه العرش الأموي وأزاله من الوجود، ولم يكن من الممكن الحفاظ على واحد منهم لولا  تلك الهدنة الاستراتيجية. يكفي أن تراجع ما فعله معاوية والمنصور الدوانيقي وهارون والمتوكل وغيرهم من حكام بني أمية وبني العباس بالشيعة لتعرف المصير الذي كان ينتظر الشيعة لو لم يغب الإمام الذي يعرف هؤلاء الحكام أنه هو القائم والمزيل لسلطانهم. الإمام المهدي(عج) عندما غاب لفترة من الزمن أراد أن يوهم الحكام الظلمة الذين كانوا يفتشون عنه تحت كل حجر ومدر أن ذكره قد تلاشى من بين الناس وأنه ربما ابتعد إلى مكان ناءٍ ثم مات فيه، وتجنب بذلك حملة المطاردات الشرسة والاعتقالات المتعسفة والقتل لشيعته. ولعل هذا هو أحد أسباب ورود العديد من الروايات التي جاء فيها التشديد على النهي عن ذكر اسمه الصريح أو الإشادة به(عج) في العلن والتي حمل المقصود فيها على أيام الغيبة الصغرى-حسب البعض-.

لعل إشكالا يرد في المقام وهو: إذا كان الخوف على الدين من الفناء وعلى الأنصار من القتل بلا طائل يجيز للإمام أن يغيب، فلماذا لم يغب الأئمة السابقون رغم تحقق ذلك؟

في الحقيقة ناقش علماؤنا هذا الإشكال منذ مئات السنين، ونلخص الإجابة عليه كالتالي:

أولا، الأئمة السابقون كانوا يعلمون أنهم إذا ذهبوا يأتي من بعدهم أئمة آخرون يكملون المسيرة من بعدهم، ولكن الإمام المهدي(عج) هو آخر الأئمة ولا إمام بعده أبدا، فلا يمكن أن يتاح للأعداء الوصول إليه وهو لم يتم مهمته بعد. ثانيا، الأئمة من بعد الحسين لم يكونوا يدعوون لأنفسهم في العلن، بل كانوا يصرحون أنهم ليسوا أصحاب هذا الأمر وأن القائم على الظالمين لم يأت زمنه بعد، وكانوا يأمرون أصحابهم بالتقية من السلاطين،ورغم ذلك لاقوا ما لاقوا وقاسوا ما قاسوا منهم، فكل ما لاقوه لا يعد شيئا فيما كان سيواجهه شيعة الإمام الثاني عشر الذي كان الحكام يكثرون البحث عنه وهو لم يولد بعد لقتله وإهدار دمه لما اشتهر بين الناس بأنه هو القائم من آل محمدوأنه يزيل عروش الظالمين. لذلك غاب الإمام مؤقتا لحفظ دماء أتباعه قبل النهضة التي قد تحتاج وقتا طويلا قبل انطلاقتها فيكون قتلهم قبل ذلك بلا طائل.

11) ونضيف نقطة أخيرة أشارت لها الروايات، وهي خروج القائم(عج) وليس في عنقه لأحد بيعة. ولعل أحد وجوه الحكمة في ذلك هو إزالة الاعتراض الشرعي والأخلاقي في الخروج على الحكام الظلمة والمزيفين، ولئلا يكون لهم حجة عليه يضلون بها الناس ويصدونهم بها عن اتباعه عندما يخرج(عج) ليملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، روحي وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء.