الإلتزام الديني وتوازن الشخصية

يفترض أن الدين دائماً هو مشروع حياة، وسبيل بناء شخصيات مستقيمة ومتوازنة وناجحة، لكن الواقع يحكي العكس، فكثيرٌ من الشخصيات الدينية الملتزمة تقدم لنا نماذج لشخصيات مضطربة نفسياً وغير متزنة فكراً وسلوكاً، حيث نرى في الساحة الواقعية من هؤلاء من يفجر نفسه أو ينحر الآخرين، ونرى منهم من يثير فتن ضخمة تشق مجتمعات بشرية كاملة بأسباب تافهة، ومن يخلق عداوات وأحقاداً في العلاقات الإجتماعية أبسط ما قد يقال عنها أنها خلافات تافهة مجنونة تظهر كل ما هو خلاف المصلحة الفردية والإجتماعية وخلاف الحكمة وخلاف ما ينبغي.

هنا في هذه الساحة الدينية المأزومة فكرياً وسلوكياً حيث الأفكار المجنونة، قد يتباها القاتل في الساحة الدينية بأنه قتل كافراً وهو يحصد في أرواح الأبرياء الذين لا ذنب لهم سوا أنهم في خلاف معه في عقيدة أو فكرة، ويتفاخر الفظ غليظ القلب سيء الخلق بأنه عبوس وبذيء اللسان وصلف جلف بحجة أنه يسخر ويستهزيء ويهين ويحتقر أصحاب الأفكار المنحرفة والطبائع الشاذة بتعالٍ وملائكية عجيبة وأنانية مفرطة دون أن يعتدي عليه أحدهم ببنت كلمة، جاعلاً إعوجاج سلوكه وأفكاره مقياساً في معرفة الحق والفضيلة، يقيس به استقامة واعوجاج سلوك الناس وأفكارهم، وتجد مثل هذا أيضاً يسلب الناس متعة الحياة والبهجة والسعادة والترفيه والرفاهية ويحول الحياة من لوحة إنسانية بديعة زاهية الألوان أبدعها الخالق سبحانه بعظمته لتكون في أبدع صور الكمال والجمال إلى لوحة تراجيدية داكنة شيطانية يملؤها التشاؤم وأشباح منزلقات جهنم التي تنتظر الأطفال والعجائز وكل الأبرياء الذين لم يستوعبوا الفكرة العظيمة الظلامية للتخلف والضلال، بحجة فهم هذا الكائن العظيم المأزوم العميق لدين الله الذي يدعوه لتحويل حياة الناس لكابوس وقلق وطامورة أحزان... الخ.

إنك تجد هذا النوع من المتدينين يغرق نفسه في بحر شقاء إسمه الخوف غير السوي من الله سبحانه، ناسفاً بالجهل تلك الرحمة الإلهية الواسعة التي وسعت كل شيء، وخالقاً بحراً ومحيطاً واسعاً من القلق والخوف الديني غير السليم وغير المبرر في حياته وحياة الناس، ليضيق على نفسه وعلى الآخرين آفاق الحياة الواسعة، وليغلق كل أبواب الرحمة الإلهية، وليدمر الهدفية المنطقية العقلانية للدين ولخلق الإنسانية الجاعلة لها تسير قدماً في رحاب التكامل لا النكوص، جاعلاً كل قشريات أفكاره ديناً وأسباباً للقلق والرعب من ربٍ هو أرحم الراحمين وأحكم الأحكمين.

ثم بعد كل ما يخلقه لنفسه وللآخرين من حوله من قلقٍ وذعر من خالقه وبارئه سبحانه يقلق تصرفاته وسلوكه ويدخلها في اضطرابات اللاتوازن وغياب الرشد، ينفي كل ما يعيشه من قلق الشخصية وغياب التوازن رغم كل التدمير الذي تحدثه أفكاره وشخصيته، ويدعي قمم الرشد وعمق البصيرة والرؤية واستقامة السلوك والفكر، فيحمل مشعل الهداية لكل البشرية وهو عن هداية نفسه لاطمئنانها وتوازنها ومنافعها أعجز!!!.

ورغم ذلك الإنكار للاتوازن وللإضطراب النفسي والسلوكي، فإن الأمثلة والنماذج التي تثبت قلق وعدم توازن الكثير من الشخصيات الدينية المنتجة في الساحة في مختلف المذاهب الإسلامية لكثيرة بما يكفي لتغطية كل وجه الكرة الأرضية حتى يمتليء الهواء إلى عنان السماء. ونحن لسنا هنا بصدد تعداد الأمثلة المتنوعة والمتكاثرة باستمرار تعداد من يسعى للإثبات.

فالقاريء الإيجابي المتفاعل والفاعل هو هدفنا وهو المسؤول في النهاية عن كشف الحقيقة، وهو عنصرٌ مهمٌ هنا في المعادلة الفكرية، وهو قادرٌ بلا شك على قراءة التفاصيل واستجلاب الأمثلة المتنوعة إذا أراد ذلك حتى وإن كانت تلك الأمثلة حادة وصادمة ومخالفة لميوله وتوجهاته وانتماءاته، وهذا الدور هو المأمول ممن يطلب الرشد. ونحن لا شك بحاجة لتسليط الضوء باستمرار على هذه الظواهر السلبية من باب إثارة الفكر ليس إلا، لا من باب الوصاية الفكرية على أحدٍ. لعل وعسى في النهاية، أن يستفيق من يستطيع الإستفاقة من إخواننا البشر ضحية مثل هذا الفكر الضال، عندما يدركون إنعكاسات تلك الشخصيات على حياتهم.

فكم من مشاجرة ومشاحنة بشرية لا داعي لها، تحدث في أوساطنا الإجتماعية وبين أحبتنا وتنتج خسائر نفسية ومادية واجتماعية فردية أو جماعية بل وسياسية أيضاً - وهو الأدهى ربما -، وكل ذلك بسبب لوثات فكرية دينية خاطئة وممارسة ينهجها متدين مأزوم فكرياً بأفكاره غير السوية بسبب غرقه في مستنقع من جهله ومن الأوهام والأفكار الخاطئة؟!.

إن الحياة الإجتماعية تتطلب أفراداً وأناساً أذكياء وإيجابيون يبنون العلاقات الإجتماعية بطرق ناجحة ويحافظون على تلك العلاقات كمصدر قوة لهم ولمجتمعاتهم بمختلف السبل، لكن الكثير من المتدينين للأسف رغم كثرة الروايات الدينية التي تصب في صالح الرشد الفكري والبناء القويم للعلاقات الإجتماعية كثيراً ما يمارسون خلاف ذلك مستندين لبعض المرويات المرفوضة أو تلك التي يتم فهمها بشكلٍ خاطيء، فيفسدون العلاقات الإجتماعية ويشحنونها بالتوتر مدمرين حتى علاقاتهم الإجتماعية بأهلهم وأقربائهم وأعز الأصدقاء في صراعات من أجل اللات والعزى المعشعشة في أدمغتهم، بوهم أنها الآلهة أو ما يستجلب رضى الآلهة. هذا طبعاً إن لم يرتقوا أكثر في سلم الإيمان بالوحشية والعنف المبررة عندهم دينياً حتى للقتل ولإراقة الدماء البريئة، ويبقى في النهاية مصدر الخطيئة والإنحراف السلوكي هنا واحداً هو الجهل، وتنقلب هنا مساويء الأخلاق إلى مكارم وفضائل وأخلاق راقية، والأفكار الغبية والمجنونة إلى بدائع وروائع فكرية وعبقرية.

إنها لوثة جنون حقيقية أن تصبح أنت الشخصية المختلة التي تدمر علاقات القوة التي تحيط بك في هذا المجتمع، في الوقت الذي يدرك فيه بقية البشر حولنا في هذا العالم مصالحهم الحقيقية والمصالح المشتركة وضرورة صناعة توازنات المصالح على حقيقتها، وكل ذلك بحجة أنك داعية ديني أو واعظ أو موجه أخلاقي أو محارب من أجل القيم التي في الحقيقة لا تمثل إلا مغالطات وقشوراً عالقة في رأسك أو تضخيماً لقيمٍ بشكلٍ غير صحيح على حساب أخرى هي أعلى وأسمى وأهم.

وذلك مرة بسبب إختلاف مذهبي، ومرة بسبب خلاف مرجعي، ومرة بسبب تناقض سلوكي قابع في زوايا الخصوصيات الشخصية، ومرة بوهم إصلاح كل الكون مهما كان واضحاً أن هذا العمل على الإصلاح هو في الممارسة الواقعية مفسد ومدمر يجعل التعلق بالقشة الدينية سبباً لقتل البعير الإنساني والإجتماعي والأخلاقي والديني والإقتصادي والسياسي... الخ.

ورغم أن هذا الكلام هنا ليس بحثاً إجتماعياً نفسياً، ولا دراسة تحليلية، ولا تتبع واستقراء للواقع لبيان تفاصيله بالأرقام وبدقة، لكنه يقع بلا شك في دوائر النقاشات المهمة والجادة والضرورية باستمرار في مثل ساحتنا الإسلامية ذات الصراعات الدينية الساخنة، حيث خلل عدم توازن الكثير من الشخصيات الدينية واضح لا يخفى إلا على عقول من غش بتدينه وتزمته الخاطيء، ولذا فالكلمة تقال هنا ويجب أن تقال باستمرار وفي كل مكان لهؤلاء المتدينين المتزمتين المأزومين نفسياً وسلوكياً، الذين يحسبون أنفسهم حملان وديعة وحمائم تصنع السلام بل ملائكة رحمة وخلق سامي تخطوا فوق الأرض - رغم عدم تشكيكنا في كثيرٍ من نوايا هؤلاء الطاهرة -، ولأشباههم من غير المتدينين أيضاً سواءً كانوا ليبراليين أم علمانيين أم ملحدين... الخ، ممن ينهجون نفس نمط التفكير تحت عناوين مختلفة، فالخطيئة واحدة هي الجهل والغرور بالأيديولوجيا والإرتهان لها بشكل تام يخنق آفاق البصيرة والرؤية، والرسالة والكلمة الراقية هنا التي يجب أن توجه لهؤلاء جميعاً، هي: أنه ليس أفضل من صناعة السلام والأمن النفسي والإجتماعي والعبور نحو خلق توازنات علاقات ومصالح إجتماعية إيجابية واعية وذكية وحقيقية ترتقي بالأفراد والمجتمع والدول على السواء، وهذا يتطلب قلوباً كبيرةً وعقولاً أكبر، تجمع ولا تفرق، وتبني ولا تهدم، وتتسامح وتتعاون بتوازنٍ، فتبعدنا بشكلٍ حقيقي عن خطيئتين كبيرتين هما «الجهل والقسوة المبنية على الكراهيات الأيديولوجية» المدمرة للإنسان والمجتمع.

وذلك لن يحدث إلا بنقض البنا الفكرية الخاطئة، التي تسالم الناس على صحتها فتوارثوها وورثها الفرد، أو قبلها الفرد من محيطه بسلبية العاجز عن التفكير، أو خلقها بجهله لنفسه وصدرها لغيره، وبنا عليها شبكة واسعة من المفاهيم والأفكار الخاطئة المأزومة والمؤزمة لفكره وعواطفه وسلوكه، ما يوجب أن يأتي هنا دور الفرد في البحث والتنقيب والنقض ليقوم بالمطلوب بقوة ليصلح ما فسد من نفسه ومن الآخرين عبر سلسلة واسعة من القراءات والأفكار المتشعبة والممتدة... والسلام.