العقاب بحب «1»

يكاد التطرف يصبغ حياتنا الاجتماعية والثقافية والسلوكية والفكرية. ويكاد يصدق علينا قول الشاعر الجاهلي: «ونحن أناس لا توسط بيننا». للأسف لم يأتِ بعده شاعر يقول: «ونحن أناس لا تطرف بيننا». فهل التطرف موروث جيني؟! لا أقول بذلك طبعا، ولكن الواقع يصر على مخالفتي وإثبات العكس. هداك الله أيها الواقع المعاند الأليم!!!

في حياتنا الأسرية مثلا نجد نموذجين أو نمطين تربويين سائدين: نموذج الثواب بإفراط والتدليل دون حدود، ونموذج العقاب بإفراط والتعذيب دون حدود. أما النموذج الوسط الذي يعتمد في الأصل على الثواب وفق أسس سليمة، ولا يهمل العقاب كعلاج استثنائي لبعض الحالات ضمن حدود محكمة تلتزم بالضوابط الشرعية وتتأطر بالقيم والأخلاق وتنطلق من الحب عند إعمال العقوبة.

يزخر القرآن الكريم بالكثير من الآيات التي تتحدث عن العقاب كعلاج يُلجأ له عند الضرورة. ولعل آية واحدة تكفي من يتوقف عندها لإيصال المطلوب. ونعني بها قوله تعالى: «ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً».

يقول صاحب تفسير التحرير والتنوير في ذيل هذه الآية:

"والاستفهام في قوله: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ أريد به الجواب بالنفي فهو إنكاري، أي لا يفعل بعذابكم شيئا.

و معنى يَفْعَلُ يصنع وينتفع، بدليل تعديته بالباء. والمعنى أنّ الوعيد الذي تُوعِّد به المنافقون إنّما هو على الكفر والنفاق، فإذا تابوا وأصلحوا واعتصموا باللّه غفر لهم العذاب، فلا يحسبوا أنّ اللّه يعذّبهم لكراهة في ذاتهم أو تشفّ منهم، ولكنّه جزاء السوء، لأنّ الحكيم يضع الأشياء مواضعها، فيجازي على الإحسان بالإحسان، وعلى الإساءة بالإساءة، فإذا أقلع المسيء عن الإساءة أبطل اللّه جزاءه بالسوء، إذ لا ينتفع بعذاب ولا بثواب، ولكنّها المسبّبات تجري على الأسباب".

أما صاحب تفسير الأمثل، فيقول تحت عنوان: «العقاب الإلهي ليس دافعه الانتقام» ما يلي:

"والآية الأخيرة - التي هي موضوع بحثنا الآن - تشير إلى حقيقة ثابتة وهي أنّ العقاب الإلهي الموجه للبشر العاصين ليس بدافع الانتقام ولا هو بدافع التظاهر بالقوّة، كما أنّه ليس تعويضا عن الخسائر الناجمة عن تلك المعاصي، فهذه الأمور إنّما تحصل ممن في طبيعته النقص والحاجة، واللّه سبحانه وتعالى منزّه من كل نقص ولا يحتاج أبدا إلى شيء.

إذن فالعقاب الذي يلحق الإنسان لما يرتكبه من معاص، إنما هو انعكاس للنتائج السيئة التي ترتبت على تلك المعاصي - سواء كانت فعلية أو فكرية - ولذلك يقول اللّه تعالى عزّ من قائل في هذه الآية: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ".

هذه الآية ترشدنا، فيما ترشدنا إليه، إلى أساس تربوي هام جدا، وهو أن العقاب التربوي ينبغي أن يرتبط بهدف إصلاحي، وأن لا يكون القصد منه التشفي وتنفيس الغيظ بأي شكل كان، لأن عقاب التشفي يسحق شخصية المعاقَب ويتعدى الحدود وتكون نتائجة وخيمة مدمرة.

العقاب بحب لا يقدر عليه إلا أولئك الذين يمارسون أعمق الحب، الحب غير المشروط، والذين يتحكمون في ضبط انفعالاتهم، ويسترشدون بعقولهم في سلوكهم التربوي.

دمتم بحب.. جمعة مباركة.. أحبكم جميعا.

شاعر وأديب