أبجديات يتيمة

أنا يتيمة أخط لكم أبجديات يتمي.

أنا يتيمة بين أحضان والدي.

نعم يتيمة... نعم يتيمة... نعم يتيمة.

يتيمة في بيت أبي.

يتيمة وأنفاس أمي بين عالمنا.

يتيمة وصدى صوت أبي يسمو في فضاء عالمي.

عذراً عزيزي القارئ.

عذراً على خوض قلمي بين دفات ذاكرتي.

عذراً لخربشات أحباري.

اليوم يخط قلمي على أوراقي البيضاء مشاعر قلبي.

اليوم تقطع شرايين أوردتي وأسكبها على ذاكرت الأيام.

اليوم صدق أبجدياتي وجرأة قلمي تنقلك إلى عالمي، وفلسفة حروفي تنثر بين أناملك معاني اليتم.

بدموع الغربة وألم اليتم وجراحات الليالي والأيام، وبأسلوبي الطفولي، وببراءة أبجدياتي، وخربطت أفكاري، وتداخل مشاعري، وبصدق ألمي أسكبها بين فضاء وحدتي.

أنا ببراءة الطفولة أدلل دميتي، وألعب بين أركان غرفتي، وأخربش بسماتي وضحكاتي على جدار غرفتي.

أدرك ببسمتي الصافية أن هذا عالمي، أحضان أمي والفرح واللعب والمرح واللقاء مع الأهل والجيران وبعض الرحلات مع أسرتي.

لم تدرك بسمتي من حروف تتطاير في ظلام الليل.

لم تتبلور ضحكاتي عن سواد الأيام الحزينة.

أستيقظ مبكرة أبحث عن رائحة أمي في دهاليز الغرف وبين الممرات.

أمسح دمعتي عن مقلتي.

نعم أمي... أمي... أمي.

لم ترد أمي.

دموعي البريئة، هل تدرك أن أمي لن تحتضن عالمي؟

لا... لا... لا.

لكنها توشحت بردائها الأبيض!!!

سجدة لخالقي شكراً، لأن أمي لاتزال أنفاسها بين عبير حياتي.

تثاقلت الأيام والليالي وأنا أنتظر نور أمي.

أهمس في ذاكرتي وأخاطب أنفاسي الحزينة، أيام قليلة وتتحرر أمي من قيود سريرها الأبيض.

تلون وجهي بسمة الأمل، وتدمع عيني شوقاً لأحضان أمي.

تلمع النجوم في الليالي المظلمة، وتشرق أنوار النجوم على شعري المسترسل فوق وجناتي.

تخط أحرف نورها على جبيني الصغير، وتلمع حروفها لتدمي مقلتي من حرارة أبجديات حروفها.

هل باقة الأحزان وبذور الرياحين نثرت بين أناملها عبيرها؟

لتهز عرش الرحمان وتصمت الملائكة عن التسبيح!

نعم... نعم... نعم.

باقة الورود وعبير الورقة هي زخارف السلامة.

نعم هشمت جمجمتي الصغيرة، ورقة تزخرفت بعبارات تحذفني من أحضان أمي.

عودي الأخضر وزهرة عمري وعبير دموعي، وتفنن أهل الخير لم تنير صواب خطوات أبي.

بل تزخرفت بالسواد وتبخرت في الفضاء، وسُحبت ألعابي وطفولتي إلى قعر البئر المظلم.

نقشت أحرف يتمي على جدران وحدتي، بين نسمات الهواء العليلة.

لتسرق بسماتي بل حتى آهاتي.

نور حياتي يتراقص بين أناملي في أنين وحدتي.

أنغام الغربة تغرد على غصني الصغير، لتلحن أعذب ألحانها.

يتلاشى الليل والنهار.

والدمعة لم تحزن آهات قلبي، ولا البسمة تلهي أوجاعي، وتختفي أفراحي كما تاهت دموعي.

أحكام وقوانين تسن في هواء غربتي، والأسوار العالية تحجب عيني، وقيود تزين معصمي.

في قعر الجب أتنفس الحياة، نعم غرفتي بجدرانها الأربعة وبابها المغلق ونافذتها الصغيرة، هي حدود متنفسي.

في مملكة أبي وشم على جبيني فلسفة الغربة بكل معانيها المبهمة.

لم تتمتع عيني بالنظر في أركان المسكن الذي أسكن فيه.

لم تختزل ذاكرتي غير الممر وباب غرفتي وباب الخروج لمدرستي.

هل تسأل عزيزي القارئ عن وجبتي؟

أم تسأل أين أبي؟

أم تسأل دور أمي؟

أنها جروح تنزف على جدران غرفتي.

أبجدياتي الطفولية تنهل من حروف جروحي.

مصروفي الذي لا يتوازن مع مدخرات أبي، ولا المسكن الفاخر الذي يضم جدران غرفتي.

كان نصيبي الحرمان، بل وأقل القليل، في مدرستي أتناول ما يشدُ شيئاً من عودي، وماتبقى أتقوى به على دراستي بين أركان غرفتي.

في المساء أصغي لهمسات أبي وهو يدلل خواتي وأخوتي، وأسمع ضحكاتهم ونجواهم.

أختلس النظر من خلف ثقوب الباب.

ألم الجوع يحني أضلاعي، ويصرخ حزن أمعائي، والجوع ونكهة روائح الطعام لا ترحم.

ينطوي النهار وتنطوي كل أحلامي في وجبة طعام شهية، وجسدي الصغير يختفي على السرير.

يعم الصمت والهدوء أركان بئري العميق، وتعم الفوضى والضجيج في داخل أنفاسي.

بين بقايا الطعام وفي قعر النفايات أبحث عما يسد رمقي ويهدأ من نهش أمعائي.

تعلو البسمة مبسمي وتنطفئ لتعففها، فما وجد تتعفف حتى البهائم عن تناوله.

يستسلم جسدي النحيل لسلطان أحلامي، وتحلق أفكاري نحو نجوم ربي بين فضائه الواسع.

تحلم بشروق الشمس وأشعتها الذهبية تلاعب طفولتي، وتحمل بين خطوطها المضيئة نور الحياة لقلبي المدفون بين ركام الغربة والوحدة.

في عالمي الحالم ترقص أنفاسي على أنغام الحياة الوردية.

أنا بين أحضان أبي يدللني... نعم بين أحضان أبي أنامله تمسح دموع فرحتي، وضحكاته ونور مبسمه تنعش شرايين قلبي، أحضانه الدافئة، وأنامله العابثة بخصلات شعري، وأذني تسمع دقات قلب أبي، وأنفاسه العطرة تعطر جسمي الذائب بين أضلاع أبي.

لا تستصغر ذلك عزيزي القارئ.

نعم لا تستصغر ذلك، أنا من وهبت أبي وسام الأبوة، أنا من تشرفت أبجدياتي بحروف أبي، أنا قطرات الندى، أنا أول فرحه تدخل قلب أبي، أنا أفتح باب الرحمة والغفران لأمي وأبي.

ساعة الزمن تزعج أحلامي، وتخرس لساني عن الكلام، وتوقف دوائر تفكيري.

انتهت دقائق الأحلام، وبدأت ساعات بل دهور من الألم والحرمان.

تسحب ساعة الزمن أحلامي الصغيرة، كما سحبت مفرشي عن أشلاء جسدي.

أنهض من فراشي، أتشاجر مع أحزاني، وأتعارك مع الزمن.

أقف أمام مرآتي، أسرح شعري بهدوء، وعقلي يرتب مخزون علمه، وينشر بعض من أفكاره، ودروسه اليومية.

لا.. لا.. لا يوجد فطور ربما كسرة خبز صغيرة.

نعم.. نعم.. نعم مصروفي الخاص بعض القروش، ربما تتضاعف بعد عدت محاولات ومجادلات، وبعد أن يتوقف نبض قلبي عشرات بل أكثر.

تبحث دموعي عن خيال أبي، أنه في غرفته لا يغادرها إلا بعد أن أذهب لمدرستي، لا أنه في دورة المياه.

أينما يكن أبي أنه يغادر المسكن ممسك بأيدي أخواني، فهو يصحبهم لرياض الأطفال كل يوم.

أنا أسير على أقدامي بعض الكيلومترات في ممر لا يخلوا من المخاطر والحوادث.

تبتسم مرآتي، في مدرستك تقضي ساعات من المرح والبهجة مع زميلاتك.

نعم صدقتي مرآتي.

لكن في الظهيرة تبعثرني أحزان وحدتي، وتخذلني دموعي المسجونة في أعماق قلبي.

تنتهي ساعات الدراسة ببسمتها القصيرة، وعقلي يستعد لهبوط ذاكرت أفكاري.

وتتراقص أحرف استفهاماتي.

عزيزي القارئ لا يبتسم ثغرك من تناثر أفكاري، ولا من تصاغر أبجديات حروفي.

أنا لا زلت أجهل عالمكم، كما أعجز عن فهم قوانينكم، وحقوقي يصغر عقلي عن أدراكها.

ماهو حقي من عالم البراءة؟

ماهي واجبات أبي؟

متى تغرد حروف حقوقي؟

هل الصمت هو السبيل الموصل للحرية؟

؟؟؟؟؟ أنها تتناثر في ذاكرتي، ويبخرها عالمي الدامس.

أمي.. نعم أمي.

أين بريق رونقها؟

أين بصمتها؟

أين موقعها من الأعراب في أبجديات حياتي؟

أين؟ وأين؟ وأين؟

أين هي أمي؟

هل رفعت؟

هل نصبت؟

هل فتحت؟

هل تزينت بالسكون؟

تتجادل أحرفي.

أصرخ بصمت أني أبحث عن إجابة في قاموس حروفكم لا جدالكم.

تسكب أحرفي حقيقتها المقبورة تحت ركام ألمي.

أمك تبهرجت بصمتها الهادئ.

لتسكن على لهيب البراكين المنصوبة في قلبها الحاني، وتفتح ثغرها لبسمتها المجرورة بدمعتها.

نعم أنظر إلى أمي أشم عبير أحضانها وتلامس قطرات عطر الندى معاني جسدي.

القلب الصغير الممزق والصاعد في قمم الجبال الشاهقة والنازل في سهول الأودية السحيقة.

يحدثني أنها ملاك في هيئة بشر، لا.. أنها تنحت عن أمومتها، أنها جبل من الحجارة الصماء.

لا.. لا.. لا عزيزي القارئ.

عذراً لخربشت أفكاري، أنا من حذفت أمي من عالمي، بعد أن رحلت إلى منفاها.

أفكاري المشوشة، وأبجدياتي القاسية، ونظراتي الحادة لها، وميراث الحقد والضغينة أشتد عودهما ونمى فيهم الأشواك وتغرسهم أناملي في قلب أمي.

آها... آها... أنفاسي تثقل صدري، لا أعلم، ولا أعرف الطريق.

أقلب أوراق كتبي، وأخربش على صفحات مذكراتي.

لم تلقط عيني الممتلئة بالدموع، أحرف من حقوقي.

أين حق الطفولة؟

أين من يهتم بتفاصيل حياتي؟

أين دور الرعاية؟

نعم أين دور الرعاية!

يتم طفولتي من أشد وأقسى أنواع اليتم.

نعم أبي وأمي على قيد الحياة... لكن!

لكن أنا على قيد الأموات!

نعم قتلت البسمة على ثغري الصغير.

قتلت لا قبرت طفولتي بين ركام الاختلافات.

تفكيري مشوش... لا.. لا.. تمزقت كل القيم وانهارت الأخلاق.

لم ولن أستطيع التميز بين النور والظلمة، وبين الوجوه البشرية والذئاب المفترسة.

ألوان حياتي باهته لا رمادية بل سوداء وجرداء.

أبحث بين سواد حياتي عن نجوم تضيء حياتي.

أقلب تراب أرضي الجرداء ربما أشم عبير زهرة تنعش أشلاء جسدي.

تتأوه أوراقي بل تصرخ في وجه قلمي.

قف.. قف أضعت بياض أوراقي بحروفك الحزينة.

أعاتب أوراقي صبراً صبراً فلا زال قلبي يختزل جبال من الحزن والألم.

لحظة أوراقي البيضاء حروف صغيرة أنثرها تزين أبجديات يتمي.

هل من دور ترعى وتشرف على يتيمة فاقدة للحنان والاهتمام؟