الشراكة الموقفية
هذا النوع من الشراكة لا يتحدث عنه الناس كثيرا، رغم أنهم يُبتلَون به كثيرا. هي شراكة تتجاوز حدود الزمان والمكان، فقد تكون بين شخص معاصر وآخر في لحده الذي «قد صار لحدا مرارا» كما يقول أبو العلاء المعري. وقد تكون بين جماعة تدب على وجه الأرض وأخرى صارت عظاما رميما «هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً». هي شراكة لا عقد فيها بين المتشاركين، ولكنها ذات آثار عميقة جدا، قد لا يلحظها إلا القليل.
هل تفكرتَ مرة في قوله تعالى: «يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً»؟
هل سألت نفسك: ما علاقة أهل الكتاب المعاصرين لرسول الله الذين سألوه تنزيل كتاب عليهم من السماء بأولئك الذين سألوا نبي الله موسى أن يريهم الله جهرة؟
لا شك أن الفاصلة الزمانية بين هؤلاء وأولئك طويلة جدا، ولكن القرآن أشرك المعاصرين مع أسلافهم بقوله: «فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ». والسر في هذا اشتراكهم معهم في المنهج والسلوك والموقف، فهم على آثارهم يقتدون. وكأن الزمن تجمد عند لحظة معينة، وأبى أن يفارقها، وكأن الموتى لا يزالون يعيشون في أجساد الأحياء، ويعيدون سيرتهم الأولى. إنها الشراكة الموقفية التي ذكر معناها النبي فيما ورد عنه من قوله: إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي أَرْضٍ فَمَنْ أَنْكَرَهَا كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا وَمَنْ رَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا.
الشراكة الموقفية تعرض لها القرآن في أكثر من موضع، كما في قصة قوم ثمود مثلا، حيث كان عاقر الناقة واحدا، ولكن الله تعالى عمم ذلك الفعل، فقال: «فَعَقَرُوها»، وهو ما لفت إليه الإمام علي في قوله: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا يَجْمَعُ النَّاسَ الرِّضَا وَالسُّخْطُ وَإِنَّمَا عَقَرَ نَاقَةَ ثَمُودَ رَجُلٌ وَاحِدٌ فَعَمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعَذَابِ لَمَّا عَمُّوهُ بِالرِّضَا فَقَالَ سُبْحَانَهُ: فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ».
وورد في الرواية عَنْ سَمَاعَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ: «قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»: وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَقْتُلُوا وَلَكِنْ كَانَ هَوَاهُمْ مَعَ الَّذِينَ قَتَلُوا فَسَمَّاهُمُ اللَّهُ قَاتِلِينَ لِمُتَابَعَةِ هَوَاهُمْ وَرِضَاهُمْ بِذَلِكَ الْفِعْلِ.
وفي لفتة رائعة تشرح الشراكة الموقفية بأجلى العبارات وأمتنها، سأل الإمام علي أحد أصحابه الذي كان يود لو أنه أخاه شهد المعركة كما شهدها هو، فقال له سائلا: أَهَوَى أَخِيكَ مَعَنَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَقَدْ شَهِدَنَا. وَلَقَدْ شَهِدَنَا فِي عَسْكَرِنَا هَذَا [قَوْمٌ] أَقْوَامٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ سَيَرْعَفُ بِهِمُ الزَّمَانُ وَ يَقْوَى بِهِمُ الْإِيمَانُ.
فقد أوضح للسائل أن المعاصر المسؤول عنه كان مشاركا، وإن لم يحضر المعركة بنفسه، كما أن هناك من لم يولدوا بعد سيكونون شركاء من خلال موقفهم القلبي من المعركة ومنهجهم العملي في الحياة.
باختصار: حين تختار موقفك، أنت تختار شريكك شئت أم أبيت.