جرعة مضادة للإحباط
كثيرا ما يصاب العاملون في الحقلين الديني والاجتماعي بالإحباط نتيجة لما يحدث لتوقعاتهم من انكسارات أو انهيارات لم تكن في الحسبان، مما يجعلهم يتراجعون عن أهدافهم الطموحة، ويرضون بأخرى متواضعة، أو يعتزلون الساحة الاجتماعية إلى غير رجعة.
أحد الأسباب المهمة لهذا الأمر هو ضعف امتلاك الوعي بالسنن الاجتماعية المستفادة من القراءة المعمقة للتاريخ وأحداثه ومنعطفاته، والتي ترفد القارئ الحصيف بما يحتاجه من زاد الحكمة الذي يجعله أكثر إدراكا للواقع وفهما لدوره وما يرجو منه.
لنفترض أن شخصا يمتلك كافة مؤهلات التأثير في الآخرين من جاذبية شخصية، أو ما يطلق عليها «كاريزما»، إلى حقانية رسالته التي يدعو لها ويبشر بها، إلى قدرات متفوقة في الإقناع وتبديل القناعات، إلى غير ذلك من وسائل مؤثرة. هذا الشخص استثمر كل ما لديه من طاقات وإمكانات في سبيل جذب الناس لما يؤمن به من طريق يرى فيه الخير والرشد والصلاح. ولكنه بعد أن أمضى سنوات عدة كادحا مثابرا، صدمته النتائج وخيبت آماله، لأنه اكتشف أن حاله ليس أحسن حالا من نبي الله نوح حين قال: «فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا».
تُرى كيف سيكون حاله؟
هذا الافتراض هو نموذج لكثير من العاملين الصادقين في الساحة الاجتماعية، الذين تختلف ردود أفعالهم بحسب عوامل عديدة، منها، بل من أهمها وعيُهم بسيرورة المجتمعات الإنسانية، وما يحيط بها من تعقيدات. فحقانية الرسالة وطهارتها ونقاوتها، وصدق حامليها، واجتهادهم في خدمتها؛ كل ذلك قد لا يؤدي لحصد الثمار المرجوة. وهذا أمر يفهمه المتمرسون المطلعون على مسيرة المجتمعات البشرية، مما يخفف عنهم آلام الاغتراب الاجتماعي، ويجعلهم يركزون على أداء رسالتهم على أكمل وجه في كل الظروف والأحوال، دون تقاعس أو تراجع.
لنتأمل في قوله تعالى: «وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا» وفي قوله: «وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ».
هاتان الآيتان وآيات أخرى كثيرة تضعنا أمام حقيقة هامة مفادها أنه برغم علم الله تعالى بأن كثيرا سيعرضون عن رسالة السماء الحقة التي تعِدهم بسعادة الدارين «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ» لم يمنع مدده عن عباده «لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ».
حين نفهم هذه الحقيقة، ونفهم مفاد قوله تعالى: «وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ» سنكون أقوى حصانة ومناعة ضد فيروسات التثبيط والإحباط، لأننا مهما اجتهدنا سنكون مقصرين أمام عظمة اجتهاد وإخلاص الأنبياء والرسل والمصطفَين الأخيار من عباد الله، الذين تعرضوا لأشد أنواع الأذى والتنكيل «فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ».