كشف السبيل الآخر
ربما يتبنى البعض وجهة نظر تدعو إلى إهمال التيارات الفكرية التي تستهدف الدين كمنهج يدعي أصحابه قدرته على صنع حياة طيبة مبنية على تقوى من الله ورضوان. وقد يبرر هذا البعض ما يذهب إليه بأن مصير تلك التيارات هو الموت المحتوم إذا ما أُهملت وصُرف النظر عنها، بينما ستنمو وتتمدد إذا تم التصدي لكشف مغالطاتها ودحض حجتها، لأن البعض، كما يقولون، سيتأثر بمقولاتها وقد يقتنع بأطروحاتها، فيعتنقها في نهاية المطاف، وقد كان قبل التصدي غافلا عنها، لا يعلم عن مرتكزاتها شيئا. ولذا فإن هؤلاء يعتبرون التصدي نوع تسويق لتلك التيارات من حيث لا يريد المتصدون.
فما مدى صحة هذا الرأي؟
الجواب يمكن أن يكون في قوله تعالى: «وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ». ففي هذه الآية بيان لغاية هامة من غايات تفصيل الآيات، وهي انكشاف سبيل المجرمين انكشافا جليا، فلا يشتبه على مَن «كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ». فالمعنى كما يقول صاحب الميزان: وكذلك نشرح ونميز المعارف الإلهية بعضها من بعض ونزيل ما يطرأ عليها من الإبهام لأغراض هامة منها أن تستبين سبيل المجرمين فيتجنبها الذين يؤمنون بآياتنا.
والقرآن حافل بتعريف سبيل المجرمين وأعداء الإنسان الذين يجب أن يحذر منهم ومن مكرهم، وعلى رأسهم معلمهم الأكبر الشيطان الرجيم الذي فصّل القرآن في آياته الشريفة مبتغاه وسبيله وخطواته. يقول تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ» ويقول: «الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ» ويقول: «إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً. لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً. وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً» ويقول: «وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ. وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ».
وإذا عدنا إلى قوله تعالى: «وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ» فيمكننا أن نسجل بعض الوقفات التأملية في أفياء الآية الكريمة.
الوقفة الأولى: يوجد محذوف مقدر في الآية معطوفٌ عليه قوله «وَلِتَسْتَبِينَ». وقد اختلف المفسرون في سبب الحذف، كما اختلفوا في تقدير المحذوف. فذهب بعضهم إلى أن سبب الحذف وعدم الذكر هو التعظيم والتفخيم لأمر المحذوف. وقال آخرون بأنه استُغني عن ذكره لصلاح الفعل المذكور بعد اسم الإشارة، ونعني به «نُفَصِّلُ» لبيان العلة الأولى المحذوفة، فكأن التقدير على ما يقول صاحب تفسير التحرير: وكذلك التفصيل نفصّل الآيات لتعلم بتفصيلها كنهها، ولتستبين سبيل المجرمين. وذهب بعض إلى أن المحذوف المقدر هو: لتستبين سبيل المؤمنين، فعندها تستبين سبيل المجرمين، وبضدها تتميز الأشياءُ.
الوقفة الثانية: اختيار كلمة «وَلِتَسْتَبِينَ» بدلا من كلمة «ولتَبِينَ» أي تتضح، فالسين والتاء تدلان على المبالغة في الفعل، تماما كقوله تعالى: «فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ». فالهدف هو تبيين سبيل المجرمين تبيينا في غاية الوضوح والجلاء.
الوقفة الثالثة: المقصود بسبيل المجرمين هو طريقهم وسيرتهم وسنتهم المؤدية إلى الضلال والهلاك، والتي ينبغي أن نعرفها كي نتجنبها. فقد ورد عن الإمام علي : واعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد حتّى تعرفوا الذي تركه، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه.